تشكيليون ونقاد يتناولون في أصيلة خطاب الأزمة في الفن المعاصر

أزغاي: نحن أمام صراع أمام ثقافة النخبة وثقافة السوق والمضاربة

استعرض فنانون تشكيليون ونقاد وباحثون من المغرب وتونس أزمة الفن المعاصر وتمظهراتها مع الدعوة لإعادة النظر في الخطاب لبلورة فن تشكيلي هادف وذي بصمة، في سياق تأرجح الفنانين بين الفن المعاصر والكلاسيكي، وذلك مساء الجمعة، في ندوة بعنوان:”الفن المعاصر وخطاب الأزمة”، المنظمة ضمن فعاليات الدورة الصيفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي ال45.

قواعد ومرجعيات

وقال الناقد والأكاديمي، شرف الدين ماجدولين، إن عنوان الندوة اشتق مما يتردد على الصعيد العام داخل المعارف الإنسانية والاجتماعية وداخل الممارسات الإنسانية عموما، معتبرا أن كلمة أزمة هي الأكثر تداولا اليوم في كل الحقول، منها على سبيل المثال، أزمة المناخ والنخب السياسية والتعبير وأزمات متعددة، كما أن العنوان يعد امتدادا لما سبق أن طرح في الأزمة السابقة، في سياق ندوة” سوق الفن وصناعة القيمة”، علما أن الفن المعاصر بات يحتاج لمن يدافع عنه في لحظة كان فيها مجرد استرسال وتصريف.

وأضاف متسائلا:”حينما نقول إن تمت أزمة، فنحن نعني أنها ممتدة في الفهم والتداول وفي معنى آخر أن ننجز عملا فنيا بتراكمات، فما الذي يمكن أن نعتبره فنا وما الذي يمكن ألا نعتبره كذلك؟ هي جملة تطرح سؤال القواعد والمرجعيات التي تجعلنا نميز بين الفن وغيره، نحن أمام خروج عن منطق المردوديات والنسق الأكاديمي والمؤسسات الوسيطة إلى منطق آخر قد لا يكون تملكا وإنما مشاهدة عابرة”.

مداخلات المشاركين في ندوة:”الفن المعاصر وخطاب الأزمة”

وأكد ماجدولين أن الفن بات منجزا لأجل شيء ما لينتج أبحاثا ويناضل عن قضايا الإنسان والأقليات الدينية والعرقية وقضايا البيئة والعولمة وأخرى متصلة بأفكار ومفاهيم، مسجلا ضرورة مقاربة الأزمة التي تشوبه في سياق الممارسة والاشتغال.

لحظة تقاطع

من جانبه، اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، أن موسم أصيلة الثقافي الدولي لم يكن فضاء للقاء بين ذوات مبدعة بل لحظة تقاطع بين أسئلة وافدة من منابع شتى من الفكر والسياسة والتشكيل والأدب، إنه التقاطع المنتج لحساسية ثقافية رفيعة تتوق أصيلة وموسمها لإشاعتها لترسيخ قيم الحرية والرقي والتسامح، وهي أيضا لحظة جديدة كان الوازع وراءها إعمال النظر عما بات يكتنف الممارسة الفنية من فقدان الأسلوب والانتماء لمرجعية ثقافية خاصة، وهي العالم العربي والإفريقي وثانيها النضال المفترض لمساحات التفاعل مع جمهور الفن التشكيلي وترجمته لحقل ثقافي، وثالثا هو التحول التدريجي للفنان المعاصر والأساليب المستحدثة خارج قواعد اللوحة والنحت وما يتفرع عنها من اختيارات شكلية.

وقال بن عيسى:” إنها المصوغات التي حذت بنا لاختيار موضوع الندوة بمقاربة المسار الذي قطعته التجربة التشكيلية المغربية التي لم تكن مجرد تحول في طبيعة الأشغال والإنجاز بل انزياحا في القضايا المتصلة بالفن، وماهية الجسور التي ما فتئت أن تنهض بين الخطاب البصري والإنتاج الثقافي”.

وذكر بن عيسى أن التعثر الحواري هو وليد اليوم كما أن أثره في الحقل التشكيلي بات ملحوظا سيما مع غياب ما شكل من مرحلة تاريخية لتجربة التشكيل المغربي وهي لحظة عنفوان أثمر نقاشا خصبا جعل من الجماليات وجهات نظر لعمق فكري، وقال:”هو موضوع يبدو بسيطا في الظاهر لكنه ليس بسيطا من حيث التناول العميق للأزمة في قطاع الفنون التشكيلية خاصة في المغرب وعدد من دول الجنوب في إفريقيا والعالم العربي”.

أكاديميون وباحثون يثرون النقاش حول الفن المعاصر

إنتاجات معاصرة

بدوره، تساءل أحمد جاريد، فنان تشكيلي ورائي ومنظم معارض وناقد فني،:” هل الأزمة تعود للفن المعاصر أم الخطاب المقصود هو الخلل في الفن المعاصر؟ وما الذي يجعل من الإنتاجات المعاصرة فنا معاصرا؟ هنا لابد من العودة لنشأة حركة الفن المعاصر وهو ما يستدعي منا الكثير من الحذر في تسميته بالمعاصر بالاعتماد على الزمن الذي ينتمي إليه، إذ نشأ في منتصف الأربعينات مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كما أنه لا يوجد إجماع حول طبيعة بعض الأعمال المنجزة في الحقبة المعاصرة وهل تنتمي لها أم تندرج لما بعد الحداثة، علما أنه ليست كل الإنتاجات المعاصرة فنا معاصرا ولو أنها تدعي ذلك.

وزاد مبينا:” يعترضنا سؤال أساسي آخر هو: ما الذي يجعل ما نتابعه اليوم فنا معاصرا أو حديثا، علينا الرجوع لجوهر فكرة المعاصرة والاعتماد لما انبنت عليه الحداثة وإن كان الفن المعاصر ممارسة إلا أن خاصيته هي اختراق الحلول بين السمات الفنية من مسرح وسينما وفيديو، فالمعاصرة تقدم نفسها كنوع من القطيعة الإبداعية التواقة للتحرر البصري، فهل مبدأ التمرد على القواعد الجمالية كاف لتحديد مفهوم الفن المعاصر، هو أمر لن يفيدنا فمبدأ الانفصال ليس مقتصرا على الفن المعاصر”.

وأشار جاريد إلى القيم الجديدة من جرأة في أقصى حدودها وعنف وغيرها فضلا عن العدالة الاجتماعية التي حلت محل الجمال وهو ما جعل الفن المعاصر فنا نقديا ليصبح نقدا للأشكال التعبيرية وأضحى مفارقا للواقع بنية خلق واقع جديد، مؤكدا أن الفن المعاصر يقوم على مبدأ اختراق القيم والعصيان على القوانين والأخلاق الاجتماعية، حيث بدأت أزمته في التسعينات وكانت أولى النقاشات حوله من قبل مجلة”روح” الفرنسية سنة 1991.

مداخلة للفن التشكيلي والروائي ومنظم المعارض أحمد جاريد

تخريب القيم

وحول الفن المعاصر وعلاقته اقتصاد السوق، قال جاريد:”نشأت الرعاية الفنية في شكل مؤسسات منظمة لكنها سرعان ما تلاشت بوجود سوق يخضع للعرض والطلب، وهنا أستعرض 5 سمات محددة، فالفن المعاصر جاء في نطاق تعبيرات لا تنخرط في القضايا السياسية بل تستبعد وتتعرض للتبخيس، ثانيا، أصبحت قاعات العرض تحدد الفن من غيره وهو مظهر من مظاهر الأزمة وثالثا، موضوع الفن المعاصر والعولمة، حيث أصبح كل شيء معولما بما فيه الفن في أبعاد العولمة واقتصاداته، والخضوع لرؤية تخترق الأقليات الإثنية والعقائدية ليصبح التنوع الثقافي مهددا ثم رابعا، ويهم الفن المعاصر واللافن، في سياق معاداة قداسة الفن وزعزعة استقرار جميع المرجعيات ليصبح الفن ضد نفسه، والنقطة الخامسة تشمل الفن المعاصر وسلطة اللغة، إذ تخلت الجمالية عما هو بصري وأصبحت مسألة لغة وخطاب ليصبح الفن المعاصر عاجزا عن تقديم نفسه وتابعا لسلطة اللغة، مما خلق فجوة بين النموذج المعاصر وانتظارات الجمهور وهو مظهر آخر من مظاهر أزمة الفن المعاصر”.

وشدد جاريد على وجود أزمة في التلقي لأن الجمهور عاجز عن تمثل واستقبال الفن المعاصر الذي تخلى عن مواضيع الجمال والإبداع، وبالتالي استعصى عليه التمييز بين الفن ونقيضه، منبها إلى هجوم الإنسان المعاصر على بيئته وتخريبه لكوكب وقيمه واختراق التوازن ومساهمته في التوتر الروحي، حيث أضحى في صلب الأزمة التي تجاوزت الفن المعاصر لتتحول إلى أزمة المجتمعات المعاصرة.

جانب من المشاركين في الندوة

مفاتيح الوجود

من جهتها، أبرزت الفنانة التشكيلية والباحثة والأستاذة الجامعية، ريم اللعبي، أن الفن المعاصر يبدو غريبا وصعب الفهم من طرف المتلقي، وهو أمر يتسبب في خلق أزمة تهم خطابه أساسا، عكس ما يحدث لدى الإنسان الغربي الذي يربط قراءة إنتاجاته بفهم التحولات المحيطة به.

وقالت اللعبي:”في الغرب، يول الفرد ويتمثل قيم الطبيعة من جهة والثقافة من جهة ثانية، حتى أضحى يبحث عن مفاتيح وجوده وجوهر إبداعاته، هي حلقة من مسلسل أنماط فن العيش، ليبقى التساؤل:هل الانتقاد ضروري في الفن المعاصر لتقييم الدبلوماسية الثقافية وتأثيراتها في الداخل والخارج؟”.

وركزت اللعبي على ضرورة تشبع الطلبة والأجيال الناشئة بالقيم الفنية مع اعتماد خواص الاهتمام و التذوق الفني والتقييم والتحليل وأن يكتسبوا لحساسية فنية وفكر خاص، مؤكدة على ثقتها في المتلقي المغربي في مجال علمي إبداعي بمنأى عن الأزمات التي توجد أصلا في كل مكان وزمان.

الفنانة التشكيلية ريم اللعبي

تفاعلات وأقطاب

من جانبه، أوضح الفنان التشكيلي والباحث والناقد، عزيز أزغاي، أن تاريخ الفن يفسر كآلية إدارك خاصة تجعل الأفكار تتجاذب فيما بينها وتطبع كل حقبة على حدة، معتبرا أن الفنون البصرية ليست عبارة عن مجرة تؤسس لكينونتها الخاصة في انفصال تام عن فعل الإنسان في الطبيعة، فهي تقع في صلب تفاعلات مختلف الأقطاب وتعد مرآة عاكسة لها، كما أنه لا يمكن مناقشة المسلمات المحيطة بها بنفس الطريقة التي يناقش بها النقاد فنون ما قبل الحداثة، خاصة أن العملية أضحت خاضعة لتكيفات خارجية توجه صانعي الأعمال الفنية.

وقال أزغاي:”لم يعرف تاريخ البشرية وتيرة إيقاع مجنون كالذي عشناه في القرن ال20 و21، وهو الذي يكاد يختزل هذا التحول ويتجاوز بكثير كل ما بلغ العقل البشري من إنجازات وتسبب فيه من كوارث راكمها النبوغ الإنساني لتكريس سلوك كوني يحافظ على توازنات دول العالم، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد والثقافة والإبداع”.

وأضاف أزغاي:” يلاحظ أنه بلغ درجة من الإشباع الحضاري، والإحساس بالتفوق النوعي جعلته يصل لحالة مجنونة من التدمير الذاتي أبرزها الذكاء الاصطناعي الذي يعصف بمبادئ التعايش ويقوم بالتنكيل بقيمه المشتركة”.

الفنان التشكيلي والناقد عزيز أزغاي يقدم مداخلته حول موضوع الندوة

وسجل أزغاي أن ما عرفه الفن من قبيل تكريس قيم جمالية جديدة تتأسس على نقد الكلاسيكيات الفنية والواقع شكل انتكاسة غير مسبوقة لفائدة تصورات هجينة تنتصر لمظاهر الاستفزاز والسخرية لمختلف التعبيرات الجمالية السابقة، حيث لم يعد الصراع يدور حول النقد بل حول الأذواق وتمثلات الجمهور والمجتمع، بوجود فئة ترفض إعادة إنتاج ما قدمه القدماء “الرجعيون” مع قدر من التمجيد للسلبية والتمجيد للعبثية والارتقاء بالأشياء العادية لمرتبة العمل الفني.

وأضاف أزغاي:”نحن أمام صراع ما بين ثقافة النخبة وثقافة السوق والمضاربة، الصناعة الثقافية ولدت حالة من العداء للتميز، بإنتاج مفاهيم مثل موسيقى الشباب والشيوخ والتطبيع مع فكرة الثقافة وتراجع معايير ومقاييس مقابل سيادة ثقافة الموجة”.

جانب من الحضور

أما الباحث والناقد والأكاديمي التونسي، محمد بن حمودة، فاعتبر أن خطاب الأزمة يصدر عما يمكن أن نعالج به الصراع بين الذوق العام والذوق السائد. وقال:”نحن بصدد مسائل ذات رهانات، فعندما وصل التصوير الغربي للمجتمعات العربية تحرر من سلطة حاكمية الفن وكل التصورات الفنية، وهنا أشير إلى جماعة الفن والحرية كحركة فنية مصرية رائدة في التجديد وداعية للتحرر في الفكر والفن، والتي نشأت بعد كتابة بيان بعنوان “يحيا الفن المصري”.

وانتقد بن حمودة تدريس المعاهد لتاريخ الفن المقتصر على الفن الإغريقي وفن عصر النهضة مثلا دون باقي المسارات الفنية الأخرى، لتخرج من سياق الحضارة وسياق الثقافة، لافتا إلى أن أهم مشاكل الفن المعاصر تتمثل في الموجات الجديدة وتقليدها.

تفاعلات الحضور حول مداخلات المشاركين

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى