تحذيرات من أعطاب وتحديات الفن المعاصر في موسم أصيلة الثقافي

أشفري: لم يبقى من الفن والأدب سوى"شهية مشوهة" بطاقة اليأس

تناول فنانون تشكيليون ونقاد وباحثون مغاربة الأعطاب والتحديات التي تعترض الفن المعاصر، منها أزمة تراكم المنتوج الفني واصطدامه بالثورات والأوضاع غير المستقرة في عدد من الدول، ورؤيته من طرف المتلقي فضلا عن توظيف منطق السوق وتحديده في نطاق السلع والمتاجرة، وذلك خلال الجلسة الثانية من ندوة:”الفن المعاصر وخطاب الأزمة”، مساء أمس السبت، والمنظمة في إطار الدورة الصيفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي ال45.

قوى متحكمة

وقال الفنان التشكيلي والناقد الفني، بنيونس عميروش، إن الفن ظل يثير في كل تحول التساؤل حول ماهيته، بينما يتصاعد النقاش كلما قطع أشواطا لتأكيد منعطفاته السارية بقواعد وأعراف جمالية مما يحرض الأوساط المعنية على الاستجابة، مثلما يحصل اليوم بالنسبة للفن المعاصر الذي انطلق من الجاهز ليصبح موضوعا فنيا يليه الفن المفاهيمي الذي يستند للفكرة على حساب الموضوع والأداء المشهدي الذي يقوم على الحركات أمام الجمهور مما جعل الفن المعاصر بحاجة لتعريف دقيق، علما أن تسمياته ظلت دوما تحمل التباسا كبيرا للغاية.

وأضاف عميروش:” نستحضر معه طبيعة نهجه الهجين لملامسة مضامينه الموصولة لمختلف التأويلات، خاصة أنه يزاول اللعب على الحدود الأنطولوجية للفن، ويشكل نموذجا يتمتع بخصائص تنزعه عن الفن الحديث والكلاسيكي الذي يتوخى السمو الروحي، لذا كان من البديهي هدم قوانين الطبيعة مما تسبب في نشوب الأزمة التي بدأت في القرن العشرين باستحكام النقد أمام القوى المتحكمة في سوق الفن وتوجيهه وفق أجندات ذات صلة وجعل الثقافة عالما منفصلا بذاتها”.

وتساءل عميروش:”كيف يمكننا وضع أنفسنا أمام أعمالا باهضة السومة رغم أنها غير مفهومة ولا تثير أي مشاعر ولا تدعو للجدل في ظل الديمقراطية الثقافية الجديدة؟ هناك ارتباك في التلقي يسائل عن المعايير المعتمدة في العرض والطرف الذي يختار الأعمال لعرضها، و ما هي الجهة التي تقرر المعايير الجمالية؟، وكيف يتم فك شفرات هاته المعايير وما هي طبيعة أهدافها؟ كلها أسئلة تترجم صعوبة الفن المعاصر في اتجاه تحقيق الانسجام العام للفن مما يؤكد ضرورة مراجعة الأعمال في وقت نراهن فيه على الزمن والأطر وفضاء العرض، مما يجعل مسألة تراتبية القيم أمام التباس قصوى”.

عميروش يحاضر حول الفن المعاصر في خضم التحولات الراهنة

مضاربات مالية

وقال عميروش:”عموما، لا يتم تقييم الخصائص التقنية للعمل كما أن الفنانين يلجؤون لخطابات فكرية معقدة بينما تعود سمعتهم لمضاربات مالية مع ما يرافق ذلك من أسعار غير مبررة لإنتاجاتهم”، وتساءل أيضا عن موقع الفن من التحولات الراهنة، في الوقت الذي أنفق فيه الفنانون العرب عقودا في تثبيت الهوية، ليجدوا أنفسهم أمام قنوات مسار جديدة تخطت المتاحف في عالم حداثة انخرط فيه الفن المغربي والعربي في مسار استحقاق وحضور في سنوات سجلت انعطافا منذ 2011 مع ثورات الربيع العربي التي وضعت الفنون البصرية تحت مبصار الأزمة في ظل التوترات وعدم الاستقرار.

وزاد مبينا:”ليجد الفنانون العرب أنفسهم في حالة قطيعة مع علاقاتهم بالأوساط التي تيسر لهم تنقلاتهم بعدما لجؤوا لأوروبا ودول عربية مجاورة في ظل مخلفات الشتات واللجوء ومشاعر الدمار المتداخلة في وقت يتموقع فيه الفنان داخل وضع مقاومة يروم تجاوز العراقيل وسلب الحريات وتمسكه بالإصرار على إعلان وجوده وإيجاد حلول في إطار التجمع والحوار”، مشيرا إلى تنظيم معرض جماعي في ألمانيا سنة 2016 بشعار “سوريا.. الفن والهروب”.

وشجب عميروش تدمير مظاهر فنية تشمل منحوتات ونصب تذكارية كامتدادات لسلوكات تدميرية في سياق الثورات العربية، من ضمنها تمثال أبو العلاء المعري في سوريا، وتهشيم منحوتات في العراق وتحطيم تماثيل في ميادينها سنة 2015، وغيرها في دول أخرى.

وقال عميروش:”هي أوضاع مقلقة نستحضر معها أيضا المأساة الفلسطينية، فالحرب صارت تطبع الأدب العربي، إذ تنصب تجاربه حول الهجرة والشتات والرحيل وأسئلة أخرى وجودية، ليمر الفنان العربي من مرحلة الهوية لمرحلة بحث دائم عن نفسه داخل العالم”.

جانب من الحضور

“شهية مشوهة”

من جهته، اعتبر الكاتب والناقد والشاعر بوجمعة أشفري، أنه لم يبقى من الفن والأدب سوى “شهية مشوهة” بطاقة اليأس، متسائلا:” ما فائدة القيم التي لم تستطع منع المجزرة؟، لا يمكن في لحظة الانتقال والتحول إلا أن نتحدث عن وجود أزمة لحظة يكثر فيها تراكم المنتوج سواء كان ثقافيا أو فنيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا في ظل تراكم الكتابة في الأعمال الفنية المعاصرة والتفكير في قطائعها مع سابقاتها في أرشيف تاريخ الفن.

وشدد أشفري على وجود عطب في الفن المعاصر والخطاب، حيث أصبح كل شيء في الفن مكشوفا ولم يعد الفنان ميالا لمناطق الظل وصار رهن كشافات الضوء، يخضع لها أكثر مما يخضع لتصور عمله الفني، و نادرا ما نجد فنانا معاصرا ينسج خطابا أو يفكر في ما يورطه في عالمه الفني، بحيث ما يهمه هو سرعة الابتكار وتناسل الأعمال، ليتورط في إنتاج فن غير مفهوم أو هجين.

وأبرز أشفري أن العمل الفني المعاصر يقوم على دعوة مفتوحة للتقاسم والمشاركة فيه، ولا يعتبر عملا فنيا إلا بحضور وتفاعل المشاهد، الذي لا يتموضع في موقف السلب بل الإيجاب والتفاعل، فيصير عنصرا في العمل نفسه، كما أن العمل الفني يظل غير مكتمل لحظة العرض ما لم يتدخل الآخر المشاهد فيه بنسج خطاب تفكري عنه.

وضع بائس

وقال أشفري:”ينبغي إحداث صدمة المشاهدة والتفكير فيما يحاول الفنان صياغته في عمله الفني وما يمنحه لنا من تولد المفاهيم، لأن معظم الأعمال الفنية المعاصرة لحظية تنتهي بانتهاء زمن العرض، وهو ما يضعنا في موقف أزلي يقذفنا ربما إلى الشعور بالضياع حينما يدرك المرء الوضع البائس الذي يعيش فيه”.

بدوره، ذكر الكاتب والشاعر والباحث، عز الدين بوركة، أن أزمة الفن المعاصر كانت مرتبطة ببعد ديداكتيكي مرتبط بنسق لا ندركه إلا حينما تبدو لنا حالة التأزم، بينما في زمن السوق الحرة وذوبان الجغرافيات بات الفن قادرا على ابتداع كل التيارات والأنساق الجديدة، فهو فن رأسمالي، في خضم أزمة المعنى والقيم والعرض والسوق، حيث تكمن الأزمة في الانتقال من نظام فعال لآخر بديل فيبدو الزمن وكأنه يغير طبيعته أثناء الأزمات، في تحدي المعايير القديمة بما يسمح بالنقد المنهجي للمعايير القائمة.

ودعا بوركة الفنانين المعاصرين لإعادة التفكير في دورهم، حيث الأصالة والتفرد يبدوان أقل قيمة، مسجلا أن أزمة الفن المعاصر تأخذ بعدا جديدا، في العصر الرقمي، علما أنه يوفر فرصا جديدة في غياب مفهوم الملكية والأصالة، حيث أصبح استنساخ الأعمال الفنية أكثر انتشارا.

وعد بوركة الفن المعاصر تمثيلا لمرحلة انتقالية تتسم باضطرابات وتحديات، مرحلة نتاج تفاعل معقد بين الفلسفة والفن لتجاوز الحدود التقليدية، مبينا:”حيث كان ينظر إليه كأمر بديهي ليصبح أثرا بكل ما تحمله الكلمة من ظهور وقابلية للزوال وأصبح بإمكان كل فرد أن يفسره وفق طريقته الخاصة وهو ما يتطلب من الفنانين إنتاج أعمال تتحدى التفسير الواحد، كما أنه أصبح تجربة حية تتطلب مشاركة المتلقي ولم يعد مجرد عمل حبيس المعرض، لم يعد يكتمل إلا بتفاعل المتلقي معه، فالأزمة أضحت رهينة الفوضى ومتعلقة باللاعقلانية التي لا ترى في العالم أي نظام أو نسق، مما يجعلنا أمام أزمة مستدامة”، منتقدا النظر للفن المعاصر كسلعة تباع وتشترى مما أثر على كيفية إنتاجه وصياغته.

نقاش حول خطاب الأزمة في الفن المعاصر

عالم المتناقضات

أما نادية الصبار، مديرة مؤسسة”دانا” للإعلام والاتصال، فأوضحت أن الكتابة والفنون والرسم تعد ملاذا للهروب من عالم المتناقضات، وتساعد على البقاء والتعايش، لكنها مهددة إذا ما استحوذ الغرور على صاحبها حينما تصطاده شباك الشهرة، فإما أن يستمر أو يغيب عن المجال كلما غاب الإلهام.

ولفتت الصبار إلى أن الفن المعاصر يقوم بإيصال أفكار نؤمن بها قد تحمل دوافع سياسية أو نابعة من هموم إنسانية، في مقابل خضوعه لمعايير السوق والجهات الداعمة وفن الخطاب وسؤال الفن، لتكون الأزمة شائكة جدا، بالعودة للتساؤل مجددا:عن أي خطاب نتحدث؟ هل هو حقيقي بكل ما تعنيه الكلمة وهادف، تكون فيه الغلبة للرسالة، حيث يصف ويعالج ويناقش ويدخل أصحابه وأعمالهم التاريخ من أوسع الأبواب أو يرسلهم للحضيض وقمامة التاريخ”.

وخلصت قائلة:”نعيش نهايات الأدب والفن والإعلام، هي نهايات أراها غير معلنة وتتخفى تحت المساحيق في محاولة للتغطية على خطايا العصر، لكنها تمثل نهاية التاريخ بطريقة رمزية إن لم نتصدى لها كفانين وكتاب ملهمين”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى