الذباب الإلكتروني والحاجة إلى أطباء نفسيين إلكترونيين

حاتم البطيوي*
المبادرة التي أطلقتها دولة الإمارات العربية المتحدة الأسبوع الماضي لوضع حدّ لاستفحال ظاهرة “الذباب الإلكتروني” وتكاثر الحسابات الوهمية في وسائل التواصل الاجتماعي التي تستهدف دول الخليج، تُظهر أن التحدّيات التي تواجه هذه الدول كثيرة ومتنوعة، ولا تقتصر فقط على القضايا الجيو-استراتيجية والمصالح المرتبطة بالنفط والنفوذ في المنطقة.
أصبحت الحسابات الوهمية مرتعاً للحروب الكلامية، ومجالاً حيوياً لإثارة الفتن والتحريض، وتبادل السباب والشتائم، والتطاول على قادة الدول ورموزها السياسية والدينية. كما أصبحت مسرحاً لاستشراء الشعبوية والطائفية ونشر مشاعر الكراهية والحقد بين الشعوب عبر التحقير والازدراء، ناهيك بإثارة الشكوك في وحدة النسيج الاجتماعي الخليجي.
من هنا جاءت دعوة رئيس المكتب الوطني للإعلام في الإمارات العربية المتحدة عبد الله بن محمد بن بطي آل حامد، عبر حسابه في موقع “إكس”، إلى مكافحة هذه الحسابات الوهمية المسيئة، ومقابلتها بـ”تبليك دون تعليق”، وهو وسم لاقى رواجاً وانتشاراً وقبولاً هائلاً في الخليج.
قال آل حامد إن “الردّ على السفيه ليس من الأدب ولا مكان للذباب، لذا أرجو منكم حظر كل من يسيء إلى أي عربي أينما كان”، ليخلص إلى القول بأن “إيماننا بأصالتنا وعروبتنا هو ما يمنحنا هذا الدافع”.
على المنوال نفسه، سار رئيس المؤسسة القطرية للإعلام الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، إذ دعا بدوره إلى تضافر الجهود للتصدّي للحسابات المجهولة المصدر في شبكات التواصل الاجتماعي، التي تروم نشر الفتنة والتفرقة بين شعوب دول الخليج، في وقت تشهد مسيرة مجلس دول التعاون الخليجي مزيداً من التلاحم والتكاتف وإصلاح ما أفسدته الأزمة الأخيرة مع قطر.
في الكويت، لقيت المبادرتان الإماراتية والقطرية دعماً وتأييداً واسعين، إذ طالب خبراء وسياسيون بسن تشريعات صارمة لمكافحة الذباب الإلكتروني، باعتبارها الضامنة لوحدة الصف الخليجي، نظراً الى أن الذباب الإلكتروني تقوده فئات مرتزقة ممولة من دول أجنبية لا يروق لها انسجام الدول الخليجية وتناغمها.
بموازاة إطلاق وسم “تبليك دون تعليق”، ارتفعت الدعوات الى حجب الحسابات الوهمية، وهي حسابات زاد عددها بعد اندلاع الحرب بين حركة “حماس” وإسرائيل في قطاع غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وصار كل ما يمس إسرائيل يُحذف في حينه، لكن الإساءة الى الشعوب الخليجية والعربية لا يطالها الحذف، وهذا ما يؤكّد استهداف الدول الخليجية والدول التي خرجت سالمة ومعافاة مما يسمّى “الربيع العربي”.
لا يقتصر الأمر على الذباب الإلكتروني والحسابات الوهمية، بل هناك أيضاً “خنازير إلكترونية” تستعرض عنفها اللفظي والأخلاقي بوجه مكشوف في مواقع التواصل الاجتماعي، وكل ذلك تحت لافتة حرّية الرأي والديموقراطية وحقوق الإنسان.
من حق أي شخص أن ينتقد الوضع في بلده، وينتقد شخصياته العامة، ويعبّر عمّا يعجبه أو لا يعجبه في سياسات حكومته، لكن أن يتحول النقد إلى تجريح بأعراض الناس والغوص في حياتهم الخاصة والافتئات عليهم، فهذا غير مقبول البتة. إذ أن لكل شيء حدوداً.
أحيانًا يطالع المرء تغريدات أو تدوينات بحق أشخاص، سواء كانوا عاديين أم مسؤولين، فيحتار بشأن كيفية التعامل مع مضامينها المسيئة. هل يردّ عليها؟ أم يلجأ إلى القضاء؟ أم يتجاهلها ويغض الطرف عنها رغم ما تحمله من إساءات وإتهامات لا تستند إلى القانون؟
هناك العديد من “الكائنات الهندسية”، على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، أدمنوا بث فيديوهات يدلون فيها بدلوهم في كل شيء بحجة تنوير الشعب وإطلاعه على ما خفي من الأمور، وقد تتناول معطيات تمسّ الأمن القومي لبلدانهم، سرّبها لهم أشخاص فقدوا نفوذهم وما زالوا يحلمون باسترجاعه، ناسين أن عجلة التاريخ لا تتوقف ولا تعود إلى الوراء.
إن أمثال هؤلاء يقعون من دون وعي في براثن الخيانة لأوطانهم، مستندين إلى جوازات سفر أجنبية، ومعتقدين أن ذلك يحميهم من لعنة الإساءة إلى الوطن الأم. إنهم للأسف الشديد، لا يدركون أن الوطن باقٍ وهم زائلون.
فهم يظهرون بنهم وشراهة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، معتقدين أنهم يملكون الحقيقة كاملة، بينما هم لا يملكون شروى نقير منها.
لقد صدق المثل الإنكليزي القائل: “لا تصارع خنزيراً في الوحل فتتسخ أنت ويستمتع هو”. ومعناه ألّا تزعج نفسك مع أشخاص لا يستحقون إضاعة وقتك معهم، ولا تناقش تافهاً، ولا تكلّف نفسك عناء الشرح لمن هو دون مستواك الأخلاقي أو الفكري أو الأدبي.
إن من ينظر إلى وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام يستشف بسهولة أن فضاءاتها حوّلها البعض إلى ما يشبه مستشفى للأمراض العقلية والنفسية، وأصبحت بركاناً دائم التفجّر يقذف حمم العقد والتشوهات النفسية، الأمر الذي يبرز الحاجة إلى إعداد عدد كبير من الأطباء النفسيين الإلكترونيين، قبل أن يسوء الوضع، ويتسبب ذباب العالم الرقمي وخنازيره وضباعه في خلخلة ما تبقّى من منظومات قيمية ترشد المجتمعات وأولي الأمر فيها. ومن هنا، تُعدّ المبادرة الإماراتية المدعومة خليجياً، ناقوس خطر يجب الانتباه إليه، ليس في دول الخليج فحسب، بل في كل الدول العربية التي ما زالت تشكّل كوة ضوء في الأجواء المظلمة الحالية. فالكل مستهدف، وإن اختلف أسلوب الاستهداف من دولة إلى أخرى.
*عن (النهار العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى