“خيمة الإبداع” في موسم أصيلة الثقافي تحتفي بمسار الشاعر والروائي محمد الأشعري
العسيبي: انتصر بوعي وصنع مجده الخاص ليصبح اسما راسخا في تاريخ الأدب المغربي
بحضور صفوة من النقاد والدارسين والمبدعين المغاربة والعرب، جرى تكريم الشاعر والروائي محمد الأشعري، الأربعاء، في إطار”خيمة الإبداع” التي نظمتها مؤسسة منتدى أصيلة، في إطار الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي ال45.
أديب لامع وصحفي مقتدر
قال محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة،:” نحتفي بأعمال وسيرة أديب لامع وصحفي مقتدر، تجمعني به صلات فكرية وثيقة وأواصر إنسانية عميقة، كما أن أقدارنا ومساراتنا في الحياة متقاربة ومتشابهة، فكلانا جاء من الصحافة للعمل الثقافي، ومن السياسة للعمل القومي، جربنا العمل المضني في الساحة الثقافية من موقع المجتمع المدني التطوعي قبل أن نتولى خدمة الفكر والثقافة وحملة القلم والفرشاة، وكلانا لنا دروس وخلاصات ودروس على المستوى المهني”.
وأضاف بن عيسى:” شخصية الأشعري لها ما يميزها، فقد جمع من كل فن طرفا، فهو الشاعر والمبدع الروائي والقصصي والكاتب الصحفي الذي انفرد بأسلوبه في تحرير عموده الشهير”عين العقل” في جريدة الاتحاد الاشتراكي الذي كان جذابا وشيقا في لغته بقدر ما كان عميقا في نقلاته وحمولته الفكرية والسياسية”.
وزاد مبينا:”الأستاذ الأشعري هو العاشق للفنون البصرية من لوحات ومنحوتات وإبداعات من مختلف التعبيرات، سمات شخصيته ترسم لنا ملامح صورة مثقف ألمعي يعيش بشغف الكتابة ومن داخلها ويؤسس مواقفه وبها يؤثث حياته اليومية”، معتبرا أن تكريم الأشعري هو اختيار ذو بعد ثقافي وأخلاقي، يكرم في شخصه قيم الإبداع ومبادئ الالتزام الفكري، راجيا له موفور العطاء في الحقل الثقافي والفكري.
بن عيسى والأشعري في حديث ثنائي
من جهته، أبرز الكاتب والإعلامي، عبد الإله التهاني، تمكن الأشعري بغير قليل من المثابرة والتضحيات أن يصنع لنفسه إقامة متجددة في عدة خيمات، وأن يحوز بكتاباته عدة ألقاب ذات حمولة اعتبارية قوية، من خلال إبداعات في عدة أجناس من الكتابة، باعتباره شاعرا وروائيا وكاتبا صحفيا ومحللا سياسيا وباحثا في الماليات ومختلف أنواع التعبيرات البصرية، كما جعل قصائده احتفالا مدويا بانتصار التضحيات وصبرا بطوليا على النكبات، وسعى للمراهنة من خلال قصيدة النثر على إنتاج بلاغة شعرية مغايرة.
وقال التهاني:”بانتقاله لمجال السرد سنكتشفه في أعماله الروائية وهو ينبش في إبداعات خلاقة في المرحلة التاريخية التي عاشها، مرحلة حبلى بالأحداث والتطلعات، آخرها من الداخل تفاعل معها بقلمه وعمله الميداني، من موقعه كرئيس لاتحاد كتاب المغرب لعدة ولايات قبل أن يصبح وزيرا للثقافة، لعشر سنوات، بقي خلالها منسجما مع مرجعيته الفكرية ومحافظا على شغف الكتابة محققا نجاحات نوعية كوزير على غرار نجاحات سلفه الأسبق محمد بن عيسى”.
جماليات أدبية
أما الناقد والباحث الأكاديمي، عبد الفتاح الحجمري، فتناول الشق المسرحي من مسار الأشعري، حيث كتب مسرحيتين صدرت إحداهما سنة 1977 ونشرت بمجلة الثقافة الجديدة، إلى جانب مسرحية أخرى بعنوان:”شكون انت”، تستلهم أحداثها من الرسالة المفتوحة التي وجهها الصحفي خالد الجامعي لوزير الداخلية الأسبق ادريس البصري، والتي نشرتها صحيفة “لوبنيون” باللغة الفرنسية في نونبر 1993، وترمز لتحدي الجامعي للوزير بإصرار وجرأة، منتقدا الشطط في استخدام السلطة، لافتا إلى أن شخصيات المسرحية تستوحي مواقفها من أصداء عبارات الجامعي، وتتناول العلاقة بين الأدب والسياسة وهي معادلة كانت محور عدد من الدراسات والأبحاث.
وقال الحجمري:”تنطوي الجماليات الأدبية على أبعاد سياسية، إذ تعكس الأساليب الأدبية مواقف سياسية سواء معلنة أم ضمنية، وهنا أشير إلى الواقعية الاشتراكية التي فرضها الاتحاد السوفياتي والتي اتسمت بجمالية خاصة ترتبط بالإيديولوجية الشيوعية مما جعلها أداة تخدم أهداف الحزب السياسي، من هنا تبرز أهمية إعادة التفكير في العلاقة بين الأدب والسياسة، ليصبح الأدب ساحة يتقاطع فيها الصراع”.
“خيمة الإبداع” تحتفي بمسار الأشعري
وزاد مبينا:”المسرحية لها مكونان، مكون يهم بطلها الرئيسي (رمسيس)، وهو شخصية مركبة، تجسد صورة معقدة تثير التفكير وتنسج خيوطا غامضة ومتعددة الأبعاد، تعكس تصورات حول مفهوم السلطة، والتوترات الداخلية التي ترتبط بأعباء التسلط، ليمثل رمسيس حكاية إنسانية غنية تنفتح من خلالها الأبعاد المتناقضة بين المصير والمجهول، إلى جانب المكون الثاني ويشمل المرآة، التي تعكس الصراع الداخلي وتعدد وجهات النظر، وترمز لتكرار التاريخ وإعادة إنتاجه من جديد”.
كينونات إنسانية
أما الناقد والباحث في الأدب واللغة والثقافة، عبد الحميد عقار، فتناول رواية “جنوب الروح” للأشعري، التي تمثل بداية لحظة تحولية أخرى في مسار الرواية العربية، فالمعنى والشكل لا يقصي أحدهما الآخر، وتبلور المعنى لا يتم في عزلة عن الوسائط الجمالية، كما أن نسيجها ينم عن توازن خلاق ومتحرك بين الاشتغال على جماليات الشكل الروائي، فتبدو بمثابة ضفيرة يتشابك فيها التشخيص الرمزي للفضاءات والأمكنة والكائنات، باستدعاء أدبي لفضاءات أخرى بديلة تهم الحكاية والصور والرؤى ومحاورات الموتى.
وسجل عقار عمل الرواية على إعادة تشغيل الأمكنة والنصوص جماليا خدمة لإشكالاتها الخاصة وتشييد كتابة روائية مغايرة واستجلاء مسار كينونات إنسانية في أبعادها الحميمة وسعيها لفهم عام لما حولها وإضفاء معنى على تجاربها على امتداد دورة تاريخية ووجودية كاملة.
وأضاف عقار:”هي سيرة مكان وقيم وابتكار كينونات وحكايات تنتهي على دوي انفجار صرخة لاسعة ملتبسة، تحيل على صورة لقرية محتضرة، تتراكم بطريقة لولبية وتتأسس الكتابة الروائية فيها بوصفها نشاطا وصولا للسؤال المعرفي حول الوجود والذي يؤسس لتحرر جمالي ومعرفي، هي صورة لكتابة لا تستحضر الأحداث بوصفها أخبارا بل كمكونات تستفز القارئ وتوحد الواقعي والمتخيل لتمنح الرواية جماليتها الخاصة”.
عبد الحميد عقار يعدد مناقب المحتفى به
الإبن الشرعي
بدوره، اعتبر الكاتب الصحفي والباحث والمترجم، لحسن العسيبي، أن مسار الأشعري يحيل على منجز مغربي خالص وكامل، ل3 أجيال، تشمل جيل ما بعد خيبة الاستقلال، الذي فتح عينيه على وعود كبيرة، قادته للانخراط في طريق الاحتجاج، ويؤسس للقول المحلل الدارس الطامح لبناء نظرية ومشروع مجتمع مختلف، يشكل ضمن سياقه التاريخي في سيرورة الفعل المغربي عنوانا لجيل ناضج وفاعل، ضمن مسار مغربي كامل ابتدأت موجته بعد الاستعمار للتصادم مع السوق العالمية والإمبريالية الاقتصادية.
وذكر العسيبي أن المغربي ولد حاملا لسؤال الإصلاح بسقف عنوان كبير وتساؤل حول:” من نحن؟ ماذا نريد؟ وإلى أين علينا المسير؟، مشددا على أن الهوية الوطنية المغربية عززتها محطات أخرى على امتداد قرون ليشكل القرن العشرين حتى حكومة التناوب بقيادة الراحل عبد الرحمان اليوسفي محطة أخرى لإعادة مقاربة الهوية بمنطق العولمة وعلاقات التفاوت مما أنتج جيلا مغربيا ناهضا، ثم مجموعة جيل الثلاثينات التي فقدت سلطة قرارها المالي، وهو جيل متعلم لعب لعبة السياسة كتأطير للمجتمع (جيل السلطان محمد الخامس)، وأخيرا، الجيل الثالث في مرحلة الستينات، التي تعتبر وليدة موروث ذاكرة الجيلين السابقين بانتصاراتهما وخيباتهما، والتي تطمح للإصلاح ضمن أفق مؤسسات وآليات تنظيمية وثقافية، إذ يعتبر محمد الأشعري ابنا شرعيا لهذا الجيل الثالث، وهو انخراط قاده للسجن في محطة مثلما قاده لكرسي الوزارة في مرحلة تراتبية ثانية.
وأكد العسيبي أن الأشعري انتصر بوعي منذ بداياته للثقافي والأدبي فصنع مجده الخاص كشاعر وأديب وكاتب، تمكن من إنتاج كل الدواوين الشعرية، في إطار تعبير عن قلق الفرد تجاه تاريخه الشخصي وتاريخ الجماعات، فامتلك الصوت النافذ والمؤثر، وانتصر بوعي للكتابة كوثيقة للتاريخ عبر الأدب، ولم يجرفه التنظيم الذي يفرم عادة الرجال، ليظل اسما راسخا في تاريخ الأدب المغربي.
أدباء وباحثون وأكاديميون في احتفالية تكريم الأشعري في أصيلة
ورشة للتفكير
من جهتها، وصفت الروائية والناقدة والباحثة الأكاديمية، زهور كرام، رواية “من خشب وطين” للأشعري بكونها ورشة للتفكير في كل التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي والواقع المغربي عموما، وأيضا نظرية السرد، لأنها تخرج من يقينية السارد لمجموعة من الاحتمالات الأدبية السردية للأشعري انطلاقا من مسارين، وهما: تحول المغرب المجتمعي والسياسي والاقتصادي كميزة لتاريخ المغرب الحديث، في سياق تحول حركي وانزياحي، وثانيا: الرواية المغربية التي انزاحت عن مسار التفكير في الرواية العربية، خاصة أن هذه الأخيرة ظهرت بمفهوم السارد الغائب.
واعتبرت كرام أن الانتقال الوسائطي أثر في نمط التفكير لأن التقنية التكنولوجية تمثل دعامات إدراكية وبالتالي المساهمة في تغير التفكير، مبينة:”كما أن موقعنا كإنسان تغير، أصبح بجانب شريك آخر، يساهم في إنتاج الحلول وهو العقل التكنولوجي الذي أصبح مطالبا بإيجاد حلول. وكلها أشياء تؤدي لمراجعة المفاهيم، لأننا في انتقال وواقع متغير أصبح يهدد الخيال، فكيف يمكن للرواية ترويض الواقع لتصنع خيالا جديدا؟ خاصة أن الواقع اليوم يضع الخيال في حرج تاريخي، وبالتالي التفكير في أدوات جديدة للتفاعل مع ما يحدث اليوم وهو دور الثقافة التي ينبغي أن تجدد تفكيرها لأن المجتمع انفتح على عدد من الاحتمالات.
شاعر بالدرجة الأولى
وذكرت الناقدة والأكاديمية، حورية الخمليشي، أن محتوى أعمال الأشعري السردية تبتدئ بالشعر، مما يعني أنه شاعر بالدرجة الأولى، بقصيدة منفتحة على أنواع الفنون البصرية، كما أن أعماله القصصية منفتحة على إمكانية الاحتواء والتفاعل مع غيرها من الأجناس الأدبية، أثار تساؤلات حول الذات وفلسفة الموت والذاكرة والإنسان، وكلها جاءت بعد خبرة وتجربة عاشها كمناضل واكتسب خبرة ثقافية وسياسية جعلته يثير هذه التساؤلات المعرفية.
واعتبرت الخمليشي أن شخصيات الأشعري تعيش ازدواجية فكرية وكأنه يسائلنا عن كيفية التخلص من شباك هذه الازدواجية لنصالح ذواتنا مع الآخر، مشيرة إلى انفتاح أعماله على عوالم إنسانية وخبرته الغنية بالتساؤلات في زمن يكاد يفقد فيه الإنسان إنسانيته.
وأكد الناقد والباحث والمترجم، محمد آيت لعميم، تأسيس الأشعري لمشروعة الروائي عبر مساءلة الأشياء المنسية في الرواية المغربية، فالتنوع البيئي المغربي لم ينل حظه من السرد، وهو ما دفعه للانتباه لهذا الخصاص، فهو لا يخلف موعده مع مواعيد المواضيع الراهنة، ويستطيع التشابك مع قضاياه الراهنة عبر محكي سردي ولغة تحرص على الارتماء في أحضان لغة شعرية تنفذ للعمق.
احتفاء بالروائي والشاعر محمد الأشعري
وقال آيت لعميم إن رواية”من خشب وطين” تتمحور حول التخلي عن الزائد والخروج من سطوة الحداثة والتوحش الليبرالي في أفق التأسيس لحياة تنأى بنفسها عن سجن التكرار والعادة الروتينية، في عناصر يقدمها السارد بنوع من التوازن والتفصيل في طبيعة المحددات الخاصة بها.
تجربة تتفادى مكبرات الصوت
أما الشاعر والناقد، صلاح بوسريف، فاعتبر أن أي حديث عن الشعر هو مأزق حقيقي حينما يتعلق الأمر بشاعر واحد ذي تجربة شعرية، مضيفا:”معالمه تبدو في السؤال حول ما يمكن أن نعنيه بالتجربة الشخصية، ربما فيما عرفناه من كتابات نقدية عن الشعر في المغرب، إذ كنا أمام كتلة من الشعراء لا نعرف الواحد منهم إلا من خلال الآخرين، عرفنا الشعر كمصطلح مشترك ولم نعرف الشعراء كتجار وكذات شعرية. تعذر علينا النظر لكل شاعر على حدة، فكان الشعر دائما مسؤولية فردية بتجربة تعني شاعرا دون آخر بما يعني الذات الشاعرة وهي تخوض طريقها في مقابل خريطة تقود الشاعر نحو المنحى الشعري الصحيح.
وقال بوسريف:”التجربة الفردية هي منطلق ولحظة شروع وبدء من احتمال، وليس نهاية وتكشف للمنطوق الفكري والفني والجمالي للتجربة، حيث تبزغ الذات الشاعرة وتسفر عن ماهيتها ورؤيتها للعالم، فالبدء من تجربة هو إعادة المعنى للأشياء أو العالم، فهو معرفة فكرية جمالية وليس علما تعكسه قواعد راسخة”.
وسجل بوسريف أن التجربة الفردية يمكنها أن تكشف عن خصوصيات الشاعر، انطلاقا من مفهوم الجيل أو الجماعة أو الحساسية كتعبير مرضي لا يليق بالشعر، مشيرا إلى أن هذه المفاهيم اليوم لم تعد تليق أن ننظر بها للشعر لأننا نجمع كل الشعراء في بنية واحدة، منوها بتجربة الأشعري الشعرية التي تتفادى مكبرات الصوت، بصوت هامس يكاد يختفي، وقال:”يقرأ شعره باطمئنان وأريحية مرتبطة بطبيعة الكتابة، الوعي الكتابي حاضر لديه، والصوت ليس غائبا بالمطلق في كتابة الأشعري لكنه دال يكتب الشعر بطريقة غنائية وليس بطريقة تراجيدية”.
“المثقف الضمير”
من جانبها، ذكرت الشاعرة الفلسطينية، ليانا بدر، بشخصية المثقف التي تكمن وراء نصوص الأشعري، سواء كانت روائية أو شعرية، خاصة أننا نعيش في عصر جديد تحولت فيه الثقافة لباقات جديدة من المفاهيم والاستعمالات، ليحدث التغيير الأشمل للعادات والتقاليد ونجد في إنتاجاته خصوصية وراهنية في التعامل مع هذه الأوضاع في مقاربة لتغيير الجمود الذي يحيط بالعمل الروائي الكلاسيكي.
وقالت بدر:”إنه المثقف المنقب في كل ما يحدث، الذي أحدث قطيعة كاملة مع المدح الذي اعتاد المثقف العربي توجيهه إلى نفسه، يحاول في رواياته أن يكون ضد الهدم، تربته اتخذت أشكالا متنوعة دون أن يقف وسط الطريق لإنتاج قيم إنسانية في النصوص الإبداعية التي لا تندثر بسبب مصلحة أو مكسب، انتصارا لقيم يتجاهلها الكثير، هو المثقف الضمير الذي لا يتراجع أو ينسى رحلته بحثا عن الخير والحقيقة”.
الشاعرة الفلسطينية ليانا بدر
وتناول الناقد والمترجم ابراهيم الخطيب، رواية “العين القديمة” للأشعري، التي تتميز بكونها مشتتة الاتجاهات ضمن مسار متاهي يفرض عليه ضرورة التوقف أحيانا لاسترجاع ذكريات وقائع ماضية متميزة عن روايات أخرى له، حيث حاول خلالها لأول مرة استحضار تجربة شخصيتين واستعمل تقنيتي التأخير والاستباق،و تحويل محكي الرواية لمشاهد تتوالى على فضاء متعدد في إحدى قرى جنوب المغرب وتمتد للدار البيضاء، كما تتوالى على الفضاء الزمني في خمسينات القرن الماضي والستينات والثمانينات قبل التوغل في العهد الجديد الذي اتسم بالانفتاح وحاول مراجعة الماضي من خلال إنشاء هيئة الإنصاف والمصالح قبل أن يغرق في تطور ملتبس.
وشدد الخطيب على تميز المنظور السردي للأشعري بالغنى والالتباس في نفس الوقت، وانشطار السارد إلى زمنين، في تيار روائي دون أن ينزع نفسه عن مشهد واقعية صارمة حبلى بالتفاصيل.
مهندس الثقافة
بدوره، قال الكاتب والإعلامي، عبد الصمد الجباص، إن اسم الأشعري يحيل لنقلات تتم بسرعات واستراتيجيات في موقع النص تستخلص منه ذاتا مخلصة قادرة على توزيع الوجود، وخلق اختبار في محك اللغة التي تظل حقلا للصراع والنجاة، إذ يعتبر السرد مواجهة شرسة مع تدفقات الحياة وسيولات الرغبة التي تشتد لتصير أجساما حية، في إطار تقاسم لسيرورات العالم وتوزيع للوجود.
وانتقد الجباص ما أسماه ب”سذاجة” التعليمات التحريرية التي تقدم لطلبة الصحافة والتي تمجد للموضوعية في إطار عبارات مفخمة صارت أشبه بالفراغ العديم الجدوى، غير منتبهة إلى أن الانحياز أيضا قيمة، علما أن من يتمتعون بالصدق والنزاهة تجاه أنفسهم لا يتنكرون له، مثمنا مسار الأشعري ككاتب لم يفرط في وظيفته الإبداعية، فاختياره لكتابة الرأي ينطوي على عهد التزام مع الذات لفهم الحدث وكيف يدخل كعنصر حي في سجل الفكر وأن يلحق في آثار المعنى ويدمج في أفق تحيينات حية، في سياق ممارسته للحقيقة، فهو لم يكن ناقل حدث فقط وإنما مفكرا فيه لكشف دروب الحقيقة، كما أنه يعرف كيف يتعامل مع الحدث الصحفي الذي يحمل دلالات انفعالية.
ونوه الجباص بإنقاذ الأشعري بقوته للغة الصحافة كما فعل كتاب آخرون في المغرب والعالم العربي بل في العالم برمته، لأن اللغة بالنسبة له ليست وسيلة وإنما رؤية منطقية للتفاوض والصراع والقتال، باعتباره مهندس الثقافة الذي جعل الصحافة حقلا لانتعاش الثقافة، وحمى قيمة الكاتب والكتابة وصان هيبة الإبداع، تحت اسمه يحيا الشاعر والروائي كأشقاء بالجسد، فضلا عن كونه قاد المجتمع لتغيير فهمه للحدث نفسه.
تشويه للتاريخ
أما الشاعر والروائي والأكاديمي، محمود عبد الغني، فقارب رواية”القوس والفراشة” للأشعري، لكونها تمثل نموذجا لرواية يمكن أن تكتب فصولها منفصلة، وفي النهاية يتم التركيب أو المونتاج حسب ما يرتئيه الكاتب من تسلسل مفترض لها.
وأكد عبد الغني انفلات الأشعري من عدة انزلاقات وقع فيها روائيون مغاربة ممن استندوا في الكتابة على التاريخ دون الاحتكام لمؤرخين وهو أمر في غاية الخطورة، متسائلا:”لما يتوجهون للتاريخ مع أن كل شيء موجود في واقعه من بطولات وحروب وشخصيات خائنة وديكتاتورية؟، فلما السفر نحو الماضي؟، علما أنه أمر ليس في صالح الرواية بل تشويه لها وللتاريخ، فلو كانا الأمر جيد للرواية لتناوله المفكر عبد الله العروي وهو أكبر مؤرخ، لكنه لم يوظف في جل رواياته أي نص تاريخي أو معرفته بتاريخ المغرب عبر كل العصور.
جانب من الحضور
مأزق المثقف والسياسي
واعتبر الكاتب والناقد، شرف الدين ماجدولين، أن الرواية لا تتعلق بالحكمة والمعرفة وإنما بتفاصيل الوصول إليهما معا، مسجلا أن الانغماس في السياسة بات يمثل ظاهرة متنامية في حقل الثقافة، بتفريعات لممارسة السياسة خارج نطاق الفعل، مما يفتح احتمالات سياسية لما يتخطى مفاهيم السلطة والحزب والمعارضة إلى المجتمع والثقافة والتاريخ.
وأبرز ماجدولين إصدار الأشعري ل 6 روايات مسكونة جميعها في ألق التفكير في المآلات التي أنتجتها السياسة، في سياق نصوص انطوت على رغبة جامحة في مراجعة ذاكرة السياسة والقيم في المغرب المعاصر، في إشارة إلى رواية “القوس والفراشة” التي تعتبر ضاجة بالمعنى السياسي وتنتمي للتخيل الذاتي والرواية الأسرية في ارتباط وثيق بالذاكرة وتمثيل جديد لمأزق المثقف والسياسي، فتكون الصلات المفترضة مع العالم قائمة على المجاز في صورة تخيلية تعتبرها كل عوامل المفارقة والتعارض.
أما رواية”العين القديمة”، فقال ماجدولين إن الأشعري كتبها برغبة تخليد المدينة وقد تكون رواية التصالح وامتلاك صور ذكريات وتحليلها والإقرار بفعل الزمن والتاريخ، وهو نفس الوازع الذي انطلقت منه رواية “من خشب وطين”، بجعل نصوصه تفكر بالسياسة وتمارسها، خاصة أن الروائي لا يمكن أن يكون محايدا بالنظر لجنس مشدود للمجال السياسي، وهو ما عبر عنه العديد من الرواة في مقاربتهم لتجارب الشتات لدى ما سمي بانتفاضات الربيع العربي لينتهي التعبير الروائي لتصوير مفتوح للأزمات التي راكمها العالم العربي.
من جانبه، أوضح الناقد والباحث، سعيد بنكراد، أن رواية” العين القديمة” تقوم على لعبة سردية بالغة الدقة يدير خيوطها سارد بشكل غامض ومدقق، من خلال رابط بين البوح الذاتي والضمير الواصف والحوار الداخلي كصيغة للوصل بين الظاهر الخفي والمضمر الصغير، لافتا إلى أن مشاهدها لم تكن تعبيرا عن موقف عابر بل اندفاع نحو المجهول واقتتال لحد الموت بين قوتين توجدان في شخص واحد، (شخصية مسعود)، في نطاق السلطة التي لا تتحكم في الواقعي فقط بل ترسم حدوده أيضا.
عمق فكري
وتساءلت الشاعرة و الإعلامية، حفيظة الفارسي:”أيهما انتصر على الآخر الصحفي والسياسي أم المبدع؟ الجواب هو: انتصار الإنسان،”، مسجلة أن مرور الأشعري من الأدب للصحافة والسياسة التي خرج منها بقلب سليم جعله زاهدا فيما مضى، حيث احتفظ لنفسه بقسط من الشاعر حتى لا يتحول لمرتزق بشكل من الأشكال، منصتا للنبض اليومي وانشغالات الإنسان وقلقه.
وقالت الفارسي:”خاض الأشعري تجربته الشعرية والصحفية بعمق فكري ومرجعية ثقافية، برز ضمن جيل الصحفيين الذين أسسوا لعمل الصحافة كمجال يؤمن بالثقافة والموقف فكانت الصحافة الثقافية محركا للحياة السياسية، استطاع إلى جانب التزامه بقضايا الفكر والإبداع إنتاج نصوص ومواقف وقيم، هو الصحفي المبدع الذي يعرف كيف يصنع شاعريته من اللغة، يحيي نفسه عند الضرورة، ظل ضمن قلة من المثقفين وفيا للثقافة ومؤمنا أنها لن تقدم له خلاصا فاتخذها أسلوب حياة ووسيلة لاكتشاف العالم الجديد رغم اليأس الذي اعترى كثيرا من المناضلين في السبعينات، فهو يؤمن أن الكتابة أكثر رحابة من الفعل السياسي وتجسيدا لمفهوم الحرية”.
جانب من الحضور
وأضافت الفارسي:”شكل الأشعري وثيقة مرجعية عن تاريخ المغرب السياسي وتاريخ اليسار، ثم في مرحلة التسعينات التي شهدت زخما في سياق مرحلة طي صفحة الماضي، همه الداخلي لم يشغله عن القضية الفلسطينية وقضايا المغرب العربي والهجرة، وكلها مواضيع طغت على مواضيعه، إلى جانب إسهامه في بسط مكامن الخلل محذرا من الأعطاب الداخلية داخل أحزاب اليسار وفشل الخطاب الحزبي في بناء خطاب مرتكز على المقاربة الديمقراطية”.
مجال يختزل الواقع
ونبه الشاعر والناقد، أحمد زنيبر، إلى كون الشعر لم يعد مجالا للتفاخر، وهي وضعية تطرح أكثر من سؤال، لكن بالرغم من القيل والقال، سيظل حيا بيننا في الذاكرة والوجدان، مضيفا:”كان منتظما في المجالس والمحافل ولم يكن مجرد إلهام وإنما رؤية، لم يكن الشاعر شاعرا إلا بإحساسه الفائض عن المألوف، تعددت تعريفات الشعر تبعا للمرحلة الزمنية التي ظهر فيها، ظل وما يزال مجالا يختزل الواقع والعالم في كلمات، فجاءت نصوصه محملة بالقيم الجمالية والإبداعية، كما أنه يعد نضالا في الحياة ولحظة فارقة يستعيد معها الكائن الشعري ألقه، فلا جدوى منه إن لم يكن بتفاعل صاحبه مع الواقع”.
وأوضح زنيبر أن الأشعري راهن على القول الشعري وحفز المتلقي على الانخراط الإيجابي مع تشكلات الشعر الجديدة، وقال:”حاجتنا للشعر في ضوء المتغيرات الجديدة أمر لا مناص منه، فالشاعر دائم البحث عن أجوبة للأزمات والكينونة، ونشر قيم الحرية والعدل والجمال”.
مثقفون وأكاديميون وباحثون يقدمون شهاداتهم بحق المحتفى به
من جهته، تساءل الفنان التشكيلي والناقد الفني، حسان بورقية، :”هل يمكن للشعر والفن أن يعد بالسعادة والقيمة الإنسانية؟”، مشيرا إلى ارتباط شعراء بالفن التشكيلي، إذ عاش عدد منهم مع السورياليين والتكعيبيين، ومتناولا أيضا خلفيات بعض من دواوين الأشعري ودلالاتها الرمزية.
وخلص قائلا:”الفن يحول بيننا وبين السقوط، بتلاشيه يصبح العمل الفني لهيبا وحياة مقابل تعفن الزمن، وبالتالي لا يمكن للفنان أن يموت، خاصة أن الفن يجعلنا نكتشف وجودا آخر للأشياء بحقائقها المفقودة ومعرفة خاصيات الأشياء العابرة”.