حين تصمم بغداد على التعافي!

يكمن الرهان الأهم على قمة بغداد في كسر الصورة النمطية عن العراق، وإبراز أن نظام الحكم فيه قد عرف تحوّلاً ملموساً وجدياً، وإن كانت طريق السلام والاستقرار لا تُعبّد بالنيات الحسنة وحدها.

حاتم البطيوي*

تبدو بغداد مصمّمة على التعافي، وإن كانت الطريق لا تزال طويلة وصعبة ومحفوفة بالمخاطر والألغام. فمنذ اندلاع الحرب العراقية–الإيرانية عام 1980، ثم مغامرة غزو الكويت في آب/أغسطس 1990، وصولاً إلى سقوط نظام الرئيس صدام حسين في نيسان/ أبريل 2003، لم تتوقف العاصمة العراقية عن تذوّق المرارة.

في فصول سابقة من التاريخ، تعرضت عاصمة الرشيد لـ”ثالثة الأثافي”، حين رماها التتار بكل شر، بقيادة هولاكو خان، حفيد الإمبراطور المغولي جنكيز خان، في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، إبان حكم الخليفة العباسي المستعصم بالله.

أُحرقت المساجد والمكتبات، ومن أبرزها مكتبة “بيت الحكمة”، التي أُلقيت كتبها في نهر دجلة حتى قيل: “اسودّ ماؤه من الحبر، واحمرّ من الدماء”. أما الخليفة، فقد أُعدم بطريقة مهينة، إذ تقول بعض الروايات التاريخية إنه لُفّ بسجادة وركل حتى الموت، حتى لا يُراق “دم ملكي” كما كان يُعتقد آنذاك.

نهاية الأسبوع الماضي، التأمت في بغداد القمة العربية الثانية من نوعها منذ سقوط نظام صدام حسين؛ الأولى عقدت في نهاية آذار / مارس 2012، والثانية في أيار / مايو 2025. وهي أيضاً المرة الثانية التي يترأس فيها رئيس كردي قمة عربية؛ إذ كانت الأولى بقيادة الرئيس الراحل جلال طالباني، بينما ترأس الثانية الرئيس الحالي عبد اللطيف رشيد.

لم تخرج قمة بغداد عن إطار القمم العربية السابقة، إذ لم تتجاوز التعبير عن القلق والاحتجاج والتنديد، وهو ما بات متكرّراً إلى درجة الملل، لكنّ تنظيمها في هذا التوقيت تحديداً له دلالات كبيرة بالنسبة للعراق.

ولئن غاب معظم قادة دول الخليج والمغرب العربي عن القمة، مع حضور ممثلين عنهم، فإن الرسالة الأهم التي أرادت بغداد إيصالها للعرب هي أن “الطقس السياسي” في العراق قد تغيّر، وأن الوضع الأمني بات مستقراً؛ إذ لم تُسمع رصاصة واحدة، ولم يقع انفجار واحد منذ أكثر من ثلاث سنوات. فالحضور إلى بغداد اليوم يُجسّد بحقّ مقولة: “من سمع ليس كمن رأى”.

يقول مسؤول قريب من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إن الحكومة الحالية ولأول مرة تعرف استقراراً فعلياً، وهي تبذل جهداً متواصلاً لتغيير صورة البلاد التي أنهكتها الحروب والتفجيرات.

يدرك قادة العراق الجدد أنه لا يمكن التعويل على القمم العربية في حل الأزمات المعقدة التي تعاني منها المنطقة. فالقمم ما زالت تُكرّر المواقف نفسها، وتُطلق دعوات وحدة الصف العربي والتضامن، في حين أن الواقع يشهد صراعات داخلية وخارجية بين الدول العربية،تجعل النصال تتكسر على النصال، ويغدو المشهد أشبه بـ”فخار يكسر بعضه”.

يكمن الرهان الأهم على قمة بغداد في كسر الصورة النمطية عن العراق، وإبراز أن نظام الحكم فيه قد عرف تحوّلاً ملموساً وجدياً، وإن كانت طريق السلام والاستقرار لا تُعبّد بالنيات الحسنة وحدها.

إن السنوات الأربع المقبلة، يضيف المسؤول ذاته، ستكون حاسمة ومصيرية في تحديد مسار العراق، فهناك إصرار قوي على تثبيت الاستقرار، والتشديد على أن الحروب لم يعد لها مكان في “كمبيوتر” صانع القرار العراقي.

البلاد تحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى “أوكسجين السلام” والتنمية واستغلال الفرص الواعدة.

أمام كل ذلك ، ما زالت صور قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني الذي اغتيل في 3 كانون الثاني/يناير 2020 إلى جانب أبو مهدي المهندس و9 آخرين في غارة أميركية قرب مطار بغداد الدولي، تطالع زائر العاصمة منذ اللحظة الأولى لخروجه من المطار، منتصبة في شوارع العاصمة وأزقتها بتوقيع من “الحشد الشعبي”. هي صور تُعطي الانطباع بأن البلد لا يزال خاضعاً لنفوذ إيراني قوي، إلا أن القادة العراقيين يسعون بهدوء إلى النأي ببلدهم عن هذا النفوذ، ورسم خريطة طريق تمكّنه من استعادة دوره في المنطقة وتحقيق نهضته، خصوصاً بعد التطورات التي عرفها الإقليم عقب اندلاع “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.

صحيح أن هناك من يرى أن “العطار لا يصلح ما أفسده الدهر “، لكن يبقى أن هناك عمقاً عروبياً صادقاً لدى كثير من الشيعة العراقيين، وإن لم يخفَ وجود فصائل تعمل وفق أجندة إيرانية، وقوى موالية لطهران. فالعراق بلد متنوع عرقياً ومذهبياً، ويصعب فهم سياسته من دون مراعاة توازناته الدقيقة والمعقّدة.

قبل أيام، زرت نُصب “إنقاذ الثقافة العراقية” الواقع في ساحة باب المعظم في وسط بغداد، وهو من تصميم شيخ النحاتين العراقيين محمد غني حكمت، وقد أُنجز عام 2010.

يُجسّد النصب اليدَ العملاقة المكوّنة من خمسة أذرع تخرج من تحت الأنقاض، وهي رافعة كتاباً، في إشارة رمزية إلى أن الثقافة والهوية العراقية ستنجوان رغم كل ما مرّ به العراق من حروب ودمار ونهب.

تُبلي حكومة السوداني، في نظر كثيرين، بلاءً حسناً في سبيل إنقاذ العراق. فالتحديات أمامها كبيرة، لكن هناك بارقة أمل واضح يقود نحو مستقبل مشرق، تُجسّده حركة البناء والورش النشطة التي تشهدها بغداد ومناطق عديدة من البلاد.

المشهد في العراق مثلما صوره النحات حكمت. هناك إصرار على إنقاذ بلد الرافدين… وكفى.

*عن (النهار العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى