قصة العدد “تسعود” في الدارجة المغربية
الجن والبركة والتنظيم الزراعي.. حكايات مثيرة تختفي وراء "التسعة"
عبد الفتاح نعوم
العدد “تسعة” في الاستعمال اليومي يشير إلى الساعة الصباحية التي يبدأ فيها عمل معظم المؤسسات، وإلى أفضل موعد نوم منصوح به طبيا، لكنه وفق النطق الذي درج المغاربة على استعماله للإشارة إليه، أي الرقم “تسعود”، يخفي وراءه قصصا مثيرة وطريفة، تكشف جوانبا متصلة بالتنظيم الاجتماعي الزراعي ونظام الضرائب، وأخرى ذات صلة بعالم الجن ومفاهيم السعد والبركة.
أرقام وأعداد.. ثقافة مجتمع لا مجرد تقنيات
قد يبدو للوهلة الأولى أن جميع أنظمة العدّ، سواء أكانت تلك المتعلقة بالتقويم وتقسيمات الزمن، أو وحدات قياس الكتلة والطول والحجم، هي أنظمة رياضية صرفة ومجردة، بل ولا علاقة لها بأي خلفيات ثقافية أو اجتماعية، أو حتى أي تفسيرات ميتافيزيقية تقبع خلفها، بل وبسبب اعتياديتها والدروج على استعمالها اليومي، فالظن يحوم حول كونها كانت هكذا منذ بدايتها، ولم تتطور مع مرور الوقت.
في كتابه الصادر عام 2018، يشرح الكاتب العراقي ضياء الشكرجي “عجائب وغرائب التقاويم”، مؤكدا أنها تختلف حسب الظروف التاريخية والسياسية والمعطيات الثقافية للمجتمعات، ومنها مثلا التقويم الغريغوري الفريد الذي تبنته الثورة الفرنسية منذ عام 1792 على أيام مكسيميليان روبسبير، حيث تم تحويل الساعة إلى مائة دقيقة، واليوم إلى عشر ساعات، والأسبوع إلى عشرة أيام من دون سبت يهودي ولا أحد مسيحي ولا جمعة إسلامية.
الغريب في هذا التقويم الثوري الفرنسي، هو أن روبسبير، ونتيجة موقف رافض للخلفية الثقافية الدينية الكنسية التي تحكمت في تسمية الأيام، اختار أن يسمي أيام الأسبوع بالأرقام، حسب ترتيب عددي تصاعدي يبدأ بالرقم/العدد 1 وينتهي بالـ 10، وذلك لإخفاء الأيام ذات الطبيعة المقدسة بالنسبة للناس. وهو ما يشير إلى أن فكرة تقسيم الزمن عدديا لم تكن في يوم من الأيام محتكمة إلى نوع من الصرامة الرياضية المنطقية، بقدر ما هي تعبير عن مواقف ثقافية تختفي وراءها.
الاعتراض على تقسيم الأسبوع إلى سبعة أيام، لم يتوقف عند تجربة التقويم الغريغوري، بل تكرر مع الحقبة السوفياتية، فقد أصبحت أيام الأسبوع ستة أيام فقط، ذلك أن الاعتراض كان بحسب الدراسين والمهتمين على الدلالات المقدسة للعدد “سبعة”، والتي تعود أصولها إلى الحضارة البابلية، وما تلاها من حضارات وثقافات.
الباحث في الدراسات الثقافية، ومدير مجلة “أدليس”، أحمد الخنبوبي، يشير إلى أن المغاربة بدورهم اكتسى بالنسبة إليهم العدد “سبعة” دلالة روحية مقدسة، وهو ما نلمسه في الثقافة المغربية من قبيل الاحتفاء بالكسكس ذي “الخضار السبع”، والأمواج السبع وما يرتبط بها من أفكار ومعتقدات، وهم بذلك يتقاطعون مع معظم الثقافات الإنسانية العالمية.
نظام ضريبي زراعي فريد
العدد “تسعة” عند المغاربة فريد من نوعه، وفرادته لا تزال موجودة في الطريقة التي ينطقه بها المغاربة “تسعود”، إنه يختلف تماما عن العدد سبعة الذي يكاد يكون مكتسبا لدلالات منمَّطة وشبيهة ببعضها البعض في الكثير من ثقافات العالم، فالمغاربة استعملوا هذا العدد بذلك النطق في إشارة إلى نظام ضريبي زراعي فريد من نوعه.
منذ تبني المغاربة للإسلام عقيدة وشريعة، تبنوا عفويا وتلقائيا معظم التنظيمات التي أقرها هذا الدين للوقائع والمعاملات الاجتماعية، وضمنها نظام الزكاة. فاتجه المجتمع المغربي الزراعي منذئذ إلى تقسيم المحصول الزراعي إلى عشرة أقسام متساوية، من أجل الإيفاء لذوي الحقوق الذين حددتهم الشريعة الإسلامية تحت مسمى “مصارف الزكاة”، حيث يأخذون أو يأخذ الواحد منهم أحد هذه الأقسام العشرة.
وابتكر المغاربة نظما أخرى لتقسيم المحصول الزراعي، منها أربع حصص من الحصص العشرة للشخص المسمى “الربّاع”، وهو العامل أو الأجير الزراعي الذي كان يعمل لدى صاحب الملكية الزراعية مقابل تلك الحصة، هذا إذا كانت الأرض بورا، أما إذا كانت الأرض مسقية فإن الحصص التي تذهب إلى هذا الشخص هي خمس حصص، ويسمى المستفيد في هذه الحالة “خماسّاً”. ومن أمثلة ذلك أيضا منح الحصة الثامنة من الأعشار المتساوية إلى الزوايا.
تسعة رهط
محمد المدلاوي، الباحث الأنثروبولوجي والمهتم بالأصول الثقافية للدارجة المغربية واللغة الأمازيغية، أوضح في تصريح لـ”صحراء ميديا المغرب”، أن المغاربة حينما كانوا يقومون بعدِّ الأعشار المتساوية في البيدر، كانوا يستخدمون النطق العربي لتسميات الأعداد، لكن حينما يصلون إلى العدد تسعة، فإنهم ينطقونها “تسعود”، والسبب في ذلك بحسب المدلاوي يكمن في التطيُّر من ذكر “تسعة رهط” الذين تحدث عنهم النص القرآني.
وبخلاف التفاسير التي أوضحت أن القران يقصد بالرهط التسعة، تسعة أشخاص كانوا يحرضون أهل ثمود على عَقْر ناقة صالح، أسبغ المغاربة على الرهط التسعة دلالة ميتافزيقية، فاعتقدوا في حكاياتهم الشعبية أنهم ثلاث مجموعات من الجن، كل مجموعة تضم ثلاثا منهم، وهم بحسب تعبير المدلاوي (ثلاثة هبّاشا، وثلاثة حفّـارا، وثلاثة طيّارا)، ولذلك كانوا يتجنبون ذكر كلمة “تسعة” في البيدر، لأنها تذكر بهذا المعتقد، فيقولون بدلا عنها “هادي د السعود” اختصارا للعبارة الدارجة “ديال السعود”، أي أن هذه الحصة هي “صاحبة السعد”، وهو التعبير التي تطور مع مرور الوقت ليصبح “تسعود” يضيف المدلاوي.
السعد والبركة في “النادر” و”الڭاعة”
“واحد الله”، “جوج لا شريك له”. عبارات ما يزال المغاربة في الأسواق والبوادي يستعملونها إلى اليوم لكي يفتتحوا بها العدّ، فهي ليست مجرد أعداد لا معنى لها بالنسبة لهم، إنهم يبحثون عن البركة في ربط الأعداد بمعتقدات محددة لجلب الخير والبركة والسعد، وطرد النحس والشر والضرر. وفي البيدر الذي يشمل في البادية المغربية كلا من “النادر” و”الڭاعة”، تحضر هذه الدلالات بكثافة.
بالنسبة للمجتمع المغربي الزراعي تقوم نظم العدّ والحساب بتقديم خدمة التنظيم الضريبي، ومن ناحية ثانية تخفي مفرداتها وراءها نظاما من الطقوس والمعتقدات، وتحتل البركة والسعد مكانة جوهرية ضمنها، بقدر ما تعنيه “النَّعما” (النعمة) التي يتخمض عنها جهد المزارعين لشهور طويلة، النعمة التي تقي الناس شر المجاعات والأوبئة والقلاقل.
يعطي المغاربة للسعد والبركة معان خاصة ومميزة، حلولهما يمنع نعمة الغذاء من كل ما يفسدها، سواء أكانوا فئرانا أم خنازيرا أم “تسعة رهط”، وهي كلها من المحرمات التي يُمنع مجرد التفوه بذكرها أثناء جمع المحصول الزراعي أو تقسيمه إلى الأعشار المتساوية.