حزب الأصالة والمعاصرة: من نحن؟ وماذا نريد؟
عبد اللطيف وهبي
يتفق كل المحللين والمتتبعين للشأن السياسي المغربي، أن الوضع السياسي ببلادنا يعيش أزمة كبيرة،تتجلى في وضعية أزمة الثقة التي باتت تعيشها العديد من المؤسسات الدستورية التنفيذية والتمثيلية ومؤسسات الوساطة، وعلى رأسها الأحزاب والنقابات التي باتت تعلوها العديد من الشكوك في مصداقيتها.
وفي حالة الأحزاب السياسية والنقابات التي أصابها عجز ذاتي و شلت حركيتها وصارت هياكل دون روح أو نفس، أنتجت رأي عام مغربي ما فتئ يعبر عن نفوره من كل العروض السياسية والنقابية التي تقدم له، ليبلور فعله الاحتجاجي هنا وهناك خارج الإطارات التقليدية التي كانت تمثله.
ولم تأت أزمة حزب الأصالة و المعاصرة التنظيمية و السياسية إلا لتأكد، لمن هو في حاجة إلى تأكيد، أن العمل الحزبي بالمغرب يمر من أزمة تتعاظم كل يوم، و تعكس خلالا عميقا يمس مختلف مناحي المجتمع السياسي، من دولة و نخب و مؤسسات.
وإذا كان حزبنا قد عبر، من خلال تدبير اختلافاته الداخلية، عن مستوى أخلاقي متدبدب، وانزلاقات ما كان لها لتقع، فإن روح التوافق الأخيرة أعادت المستوى الممكن من ثقافة الحوار والنقاش الجدي الديمقراطي، رغم ما تخلل من فلتان لغوي وسلوكات غير سليمة لا نعتبرها صادقة في التعبير عن أصحابها.
وإذا كنا قد عبرنا منذ بدء الاختلافات عن شجاعة أدبية قوية لمواجهة أخطائنا، والمضي في تصحيحها نصرة لحزبنا ولقيم الديمقراطية والحداثة التي تلقيناها منذ أن اعتزمنا خوض النضال الديمقراطي الوطني، فإننا اليوم مطالبين أن نجعل من مؤتمرنا الرابع محطة لطرح كل القضايا التي تشغل مناضلاتنا ومناضلينا ومعهم المتعاطفين معنا وعموم الرأي العام المغربي، بجرأة وصراحة تجعل من هذا المؤتمر ولادة ثانية لحلمنا بالديمقراطية والتنمية ورخاء شعبنا.
إن كل النقاشات التي خضناها داخل الحزب، بغناها وحدتها، وأحيانا بقسوتها، لتجعلنا اليوم ونحن مقبلين على مؤتمرنا في كامل الوعي من جديد بجسامة مهمتنا، تنظيميا وسياسيا، وقبول حقيقتنا التي تقول أن حزبنا يحتاج إلى مراجعة نقدية لذاته، على كل المستويات، التنظيمية والسياسية و الإيديولوجية. مدركين جيدا أن نجاحنا في نبل هذه المراجعة النقدية لن يتأتى إلا إذا تركنا جانبا أسلوب الاتهامات المجانية، ومنطق الأحكام الجاهزة، ولغة التسفيه والسوقية، بمعنى أننا مطالبين جميعا أن نتحلى بروح وفكر ومنهجية الحوار والديمقراطية، لكي ننجز خطابا لا يجد الحلول فقط لتقدم الحزب وتقوية وحدته، بل كذلك يرقى إلى المساهمة في بناء بدائل مجتمعية تليق بطموحات مواطنينا ومواطناتنا في التقدم والازدهار.
على هذا الأساس نريد أن نقدم الورقة التي بين أيديكم،نط نقترحها للنقاش الديمقراطي بمناسبة انعقاد مؤتمرنا الرابع، ونساهم بها في بناء تجديدي لحزب الأصالة والمعاصرة.
تتشكل ورقتنا من أربعة مستويات مترابطة سنحاول أن نقدم بصددها تحليلا نقديا موجزا يمهد لفتح تبادل الأفكار حولها. المستوى الأول هو مستوى التنظيم، المستوى الثاني هو مستوى تدبير الاختلاف والتعدد داخل حزبنا، والمستوى الثالث هو مستوى الرؤية الإيديولوجية للحزب، ثم أخيرا المستوى الرابع الذي هو مستوى تحالفاتنا داخل المعترك السياسي.
1- مستوى التنظيم:
ولد حزب الأصالة والمعاصرة في ظروف سياسية مطبوعة بخاصيتين اثنتين: الأولى صعود المد الإسلاموي، والثانية تراجع القوى الديمقراطية الوطنية الكلاسيكية، أمام هذا الوضع المحفوف باختلال موازين القوى لفائدة القوى المحافظة، كان لزاما ظهور نخبة تستشعر الخطر القادم وتبلور فعلا سياسيا يستجيب للتحولات التي عرفتها السياسة، عالميا ووطنيا، والتي تتمثل في الانتقال من فكرة القطيعة وإحداث الثورة، إلى فكرة الإصلاح وإنجاز مؤسسات وقوانين تتماشى مع تطورات ثقافة حقوق الإنسان ودولة القانون.
في المغرب، حدث حظ تجادل وتقاطع ظاهرتين اثنتين، ظاهرة انفتاح المنظومة السياسية القائمة على الثقافة والفكر الديمقراطيين من جهة، وعلى حركية المجتمع من جهة ثانية. ثم ظاهرة تحولات النخب السياسية التي ابتدأت تدرك أهمية التحولات وثقلها وعانقت فكرة الديمقراطية ونضالها المؤسساتي. ووفق تزاوج هاتين الظاهرتين ولد حزب الأصالة والمعاصرة، كإرادة تعبر عن هذا التحول وتجسد فهما جديد اللإصلاح مفاده أن الوحدة الوطنية تقتضي تقوية استمرار المؤسسات التي تعبر عن هوية الأمة وتاريخها، أي المؤسسة الملكية، وأن التقدم الاجتماعي والاقتصادي يقتضي تحقيق ديمقراطية تنظم الحكم وتسهر على سير المؤسسات وتلبي الحاجيات والمطالب الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية.
في خضم التأسيس وحماسة النضال وأمام صعوبات وفرض الوجود وتأكيد الذات وإقناع المجتمع بجدية الفكرة، وجد رواد التأسيس أنفسهم، ومعهم عموم المناضلين، قد بالغوا نوعا ما في الاعتماد على الإدارة الإيجابية للدولة في التعاطي مع مطلب الديمقراطية. وصار الحزب يبدو وكأنه يعمل تحت أمرة أجهزة الدولة في كل ما يتعلق بالعمل السياسي الديمقراطي. وخلقت لدى الكثير من قطاعات الرأي العام ولدى عموم الديمقراطيين داخل المجتمع، انطباعات وأحكام تماهي بين حزب الأصالة والمعاصرة وبين السياسة الرسمية للدولة، ولقد استغل البعض منا هذا الوضع الغامض وسار يتصرف باستقواء بالقرار المركزي موهما خصومه بقدرة خاصة على الاحتكار وإيجاد الحلول والتأثير على مجريات الأمور.
هذا الوضع الملتبس الذي خلقته ظروف التأسيس كان بمثابة الخطيئة التي لازمت حزبنا طيلة مرحلة أخذت دورتها مع مطالب الربيع العربي في المغرب، حيث ثم إلحاق ضررا بالغا بصورة شخصية حزبنا عندما تم الزج به مع أعداء الديمقراطية وثم تحميله المسؤولية رغم أنه لم يسبق له أن تحمل أية مسؤولية في تدبير الشأن العام.
باختصار شديد، لقد ساهم الوضع الذي أرفق تأسيس الحزب، إلى جانب سلوكات وتصرفات بعض مناضلينا في خضم حماسة الولادة، في جعل فكرة تأسيس حزبنا و مشروعه التحديثي الديمقراطي على أنها فكرة الدولة للمرحلة الجديدة، وبالتالي شكل هذا نوعا من العائق الكبير للحزب كي يتجذر في أوساط الشباب والديمقراطيين داخل المجتمع المغربي.
لقد بذلت جهود جبارة لتجاوز هذا العائق، والابتعاد عن ما شاب عملية التأسيس من شوائب مضرة بسمعة المناضلات و المناضلين. لكن الطريق لا يزال يحتاج إلى المزيد من الاجتهاد لتأكيد استقلالية الحزب عن كل أجهزة خارجية عنه، وترسيخ فكرته كحزب ديمقراطي مستقل لا يمكنه النجاح إلا بمعية كل الديمقراطيين، داخل المجتمع المغربي.
هذه الوضعية طبعت الحزب لنوع من التبعية، بهذا الشكل أو ذاك، إلى مشاريع ومبادرات الدولة، خاصة المشاريع والمبادرات ذات المنحى الديمقراطي التحديثي، وأصبحنا نتبنى خطابا في كثير من الأحيان يبتعد عن الخطاب الديمقراطي، خاصة اتجاه القوى السياسية التي تعارض، من موقعها المحافظ، بعض هذه المشاريع و المبادرات التي جاءت لتتساوق مع الإصلاحات التي فرضتها العولمة. هكذا أصبحنا نبدو وكأننا ندافع عن قضايا ديمقراطية لكن بدون خطاب ووسائل ديمقراطية.
يبدو أن وضعية الالتباس التنظيمي بالعلاقة مع الدولة، لم تأثر سلبا على صورة حزبنا داخل الرأي العام وفي أوساط الديمقراطيين، في المجتمع السياسي كما في المجتمع المدني، بل الأدهى من ذلك أنها أثرت سلبا كذلك على حالة الديمقراطية الداخلية لحزبنا. فبما أن الحزب صار ترجمان سياسي لمبادرات الدولة، والمدافععن سياستها، فإن قيادته اتجهت نحو الانفصال عن قواعد الحزب، وهذه الأخيرة دخلت في كسل تنظيمي و إيديولوجي جعلها تتبنى النضال بالوكالة، أي توكل كل شيء للقيادة وترتاح في منطق التأييد. ولما أن الطاعة تولد الانقياد، كما يقول الفيلسوف سبينوزا، فإن القيادة الحزبية انزلقت في اتجاه تهميش القوانين والنظم الداخلية وفرغتها من مضمونها بوسائل عدة وبحجج ليست دائما ديمقراطية، لنقولها بصراحة بات منطق الزبونية والمحسوبية ودرجة الولاء والخنوع هو المحدد للتموقع تنظيميا.
لقد أبانت كل النقاشات القانونية العميقة التي سادت داخل حزب الأصالة والمعاصرة أن قوانيننا الداخلية والتنظيمية تحمل اختلالات كثيرة، ووقفنا عند خلاصة أساسية هي أن النظاميين الداخلي والأساسي للحزب ثم الخلط بينهما و تشتيت قواعدهما لتكريس حالة الانفصال بين القيادة والقاعدة. ثم لقد لاحظنا كيف تم خلق مؤسسات جديدة داخل الحزب على حساب المؤسسات القديمة التي أفرغت من محتواها، وتمت إضاعتها بين سطور الهيئات الجديدة التي تم إنشائها، مما أضاع القرار السياسي وأضعف آلياته الديمقراطية. لقد تم خلق تنظيمات موازية التي بدل من أن تقوي المكتب السياسي، باعتباره الهيئة الوطنية الديمقراطية بعد المجلس الوطني لاتخاذ القرار، أصبحت تشتت قوة الحزب التنظيمية، وبات المكتب الفيدرالي التي يتم التعيين الدوري المزاجي فيه المتحكم في التنظيم، وبالتالي أصبحنا أمام ازدواجية في اتخاذ القرار أبعدت هذا الأخير عن المصداقية الديمقراطية.
لا يمكن لوضع مثل هذا سوى أن يخلق سيادة العلاقات الزبونية والجري وراء الامتيازات و الشخصنة في السياسة، أو أنه يدفع المناضلات والمناضلين إلى اليأس و التهميش، وفي كلا الحالتين فإن حزب الأصالة والمعاصرة هو من يتم إضعافه، ومعه إضعاف الصف الديمقراطي داخل المشهد السياسي المغربي.
2- في تدبير الاختلاف والتعدد داخل الحزب:
منذ أن ظهرت اختلافات داخل مناضلات و مناضلي حزب الأصالة والمعاصرة حول التوجهات السياسية والتنظيمية لحزبنا، والنقاش الذي يحتد تارة، وتارة يخبو، يتوزع بين مواضيع مرتبطة بالحالة التنظيمية للحزب، وبين مواقفه و توجيهاته السياسية. والواقع أن كلا موضوعي النقاش، التنظيمي السياسي، مرتبطان فيما بينهما ويؤثران على بعضهما البعض. إذ أن الانحرافات التنظيمية التي طرأت على الحزب، وخلقت اعتراضات ونقاشات، كانت لغرض توجيهه نحو هذا الموقف السياسي أو ذاك، ومن أجل جعل التنظيم يضفي شرعية على هذا الخط السياسي أو ذاك.
وعلى الرغم مما عرفه النقاش الداخلي بين الأخوة والأخوات المناضلين والمناضلات من انزلاقات نحو مستويات بديئة وغير مشرفة لحزبنا، بل أحيانا انساقت قيادتنا عن حدود منطق الصراع السليم، وكادت تغرق سفينة حزبنا لولا حكماء وعقلاء الحزب، فإننا لا يمكن إلا أن نثمن كل المبادرات الداعية إلى تعميق النقاش الجاد و الهادئوالحوار العلمي الأخلاقي الرصين، من أجل التوصل إلى صيغ عقلانية و ديمقراطية تعزز قوة حزبنا وتنمي الديمقراطية الداخلية بين فاعليه.
إن لغة الإقصاء و مفردات الإيذاء الشخصي التي راجت في بعض الأحيان عند هذا الطرف أو ذاك، لا يمكنها أن تخدم سوى مصلحة أعداء حزبنا وأعداء الديمقراطية الفتية بالمغرب. لهذا فإننا نستحضر بقوة مصلحة الحزب في الوحدة، وندعو إلى تنظيم الاختلافات فيما بين مناضليه على أسس ديمقراطية وبآليات الحوار العقلاني المؤسساتي، وبهدف الوصول إلى أفكار وتصورات تفيد في بناء برامج سياسية لحزبنا تعزز مكانته كقوة اقتراحية. فالنقاش الديمقراطي الذي يحتاجه حزبنا اليوم، سواء ما يتعلق بتطوير جهازه التنظيمي، أو ما يتعلق بالقضايا الفكرية والإيديولوجية التي يمكن أن تؤسس لمواقفه وسلوكاتهالسياسية داخل المجتمع المؤسسات، هو نقاش لا يجب أن يروج الأحكام القبلية و الأخلاقية، كما يجب أن لا يشخصن المواقف والتيارات التحليلية. فجمود الحزب، ومراوحته مكانه دون القدرة على المبادرة و بقائه خلف المواقع المؤسساتية، وشيوع أشكال تنظيمية هلامية داخله، و تكلس خطابه السياسي، كلها ظواهر وسلوكات تشرعن وتبرر عقلانيا قيام بعض الأطراف داخل الحزب على إعلان معارضتهم واختلافهم مع القيادة الحزبية الحالية. و بالتالي على هذه الأخيرة أن تتحلى بأقصى درجات الموضوعية و الحكمة لكي ترى في من يختلف معها على أنه مناضل غيور على مستقبل الحزب، وليس تطير سياسوي يراد منه خلق البلبلة أو افتعال أزمات لمصالح شخصية.
إن الاختلاف مع القيادة في هذه المرحلة السياسية الذي يمر منها حزبنا، يجب أن ينظر له على أنه مشروع سياسيا، وتنظيميا، وبالتالي اعتباره فرصة ديمقراطية لتجديد نفس الحزب وتطوير مكانته. إنه اختلاف ليس بين أشخاص، وإن كان هؤلاء هم المعبرين عنه، بل إنه اختلاف في نوعية الثقافة التنظيمية التي يجب أن تسود، وفي مستوى تعميق الديمقراطية و حرية التعبير داخل الحزب، وحول التوجهات السياسية والفكرية التي يجب ارتيادها. لهذا فإن من الواجب الأخلاقي الديمقراطي على القيادة الحزبية أن تعترف بهذا الاختلاف باعتباره تعدد إيجابي في الرؤية والتحليل، وأن ترعاه وتحتضنه باعتبارها قيادة لحزب ديمقراطي يريد أن يبصم بتميز ورقي التاريخ السياسي للمغرب. إن عليها واجب حماية الحزب من السقوط في ديكتاتورية الأغلبية، بصرف النظر عن طبيعة ومواصفات هذه الأغلبية، التي قد تقوده إلى إقصاء التعدد، وفرض الفكر الأوحادي، والمضي في شعار “العلم العام عند الأمين العام” الذي به أهلكت العديد من الأحزاب اليمينية واليسارية في التاريخ السياسي القريب.
إن الاختلاف رحمة، والتعدد ثراء، والنقاش الديمقراطي سيد أخلاقنا التي يجب أن لا تتنكر لروابط الأخوة والنضال التي جمعتنا لعقود خلت وإبان مراحل عصيبة من تاريخ حزبنا.
على هذا الأساس نرى من الضروري إحياء كل المبادرات التي تم الإعلان عنها ولم تحقق أهدافها لهذا السبب أو ذاك، و التعاطي معها بإيجابية. أو خلق مبادرات جديدة تقود حوارا مثمرا وفعالا. لا نريد أن نعود للوراء ونقف على أسباب فشل المبادرات التي كان من المتوقع أن تخفف الاحتقان بين طرفي الاختلاف (حتى لا أقول النزاع )، لأن العودة لهذا سوف لن تفيد إلا المزيد من تباد الاتهامات والنعوت.
ونحن كلنا أمل في أن قيادة الحزب لها ما يكفي من الحكمة و التبصر كي لا تسقط في تهافت الإستقطابات، والإستقطابات المضادة، ولكي تتجنب منطق التفرقة و الإقصاء. كما أننا لا ننسى أنها قيادة واعية كامل الوعي، بأنها قيادة لكل الباميين والباميات. وإذا كان لها رأي وموقف مما نحن نختلف فيه، وهذا أمر طبيعي، فإنه لن تنسيها مهمة الحفاظ على وحدة الحزب، التي هي من بين المهام النبيلة لكل قيادة.
لا يمكن لنقاش بين الديمقراطيين أن يكون نقاشا حول أشخاص أو يكون بخلفيات وحسابات ذاتية نفعية خاصة، لأن هدفهم هو تقويم سلوكات، وتطوير مواقف وصقل الرؤى. كما أن الحوار بين الديمقراطيين لا يكون ناجعا وفعالا إلا إذا قدم كل طرف حسن نيته بالطرف الآخر و تشجع بتقديم تنازلات.
غير أنه بهذه المناسبة ندعو كذلك إلى ضرورة التفكير في كيفية وضع آليات لإلزام الجميع بالقرارات التنظيمية التي تكون قد اتخذت بشكل ديمقراطي داخل مؤسسات ديمقراطية، لذلك يجب أن تعود لمثل هذه القرارات تلك القوة الإلزامية وإذا دعت الضرورة تحت طائلة الجزاء.
3- الرؤية الإيديولوجية للحزب:
لعل ما ميز حزب الأصالة والمعاصرة على المستوى الإيديولوجي، منذ تأسيسه، هو شعار الحداثة والديمقراطية الذي رفعه في المشهد السياسي، وهو الشعار الذي كان يقصد به، بوعي أو بدون وعي، تجاوز خطاب الدولة الذي ساد قبل اعتلاء الملك محمد السادس عرش أسلافه، والذي كان يدفع إلى “التحديث” في حدود معينة، دون ديمقراطية.
وكانت تبدو له هذه الأخيرة مرتبطة بتغيرات في البنى و المؤسسات، الأمر الذي جعله خطابا يروج لخصوصية مغربية تتنافى مع الديمقراطية وتمجد “التحديث” التدريجي. فمع تعاظم تأثيرات العولمة من جهة، وتصاعد مد الإسلام السياسي من جهة ثانية، طرحت نخبة حزب الأصالة والمعاصرة ضرورة مزاوجة التحديث بالديمقراطية. وجاءت كل خطابات وأدبيات الحزب مشبعة بشعار الحداثة والديمقراطية.
ولقد ترجم هذا الشعار في كل مواقف حزب الأصالة والمعاصرة وفي سلوكه السياسي في تحديد الحلفاء كما في نعت الخصوم. وعمل الحزب دائما تأييد كل مبادرات التيار التحديثي داخل الدولة والمجتمع. وساند كل الإصلاحات التي همت تحسين القوانين والمؤسسات في اتجاه تجسيد ثقافة حقوق الإنسان وبناء دولة القانون وصون الحريات الفردية و الجماعية. لذلك استطاع حزب الأصالة والمعاصرة أن يستقطب اهتمام أوساط واسعة من الطبقة المتوسطة، وأن يلتف حوله عدد لا يستهان به من أطر الأعمال الحرة ذوي الثقافة الليبرالية.
وعند مضي الحزب قدما في البحث عن تصور إيديولوجي يحول شعار الحداثة والديمقراطية إلى مرجعية نظرية تدفعه ليصبح ذاك المثقف الجمعي الذي تحدث عنه غرامشي، صاغ خطابا يحاول أن يجيب على سؤال: من نحن؟ و ماذا نريد؟ فاستشعار الحزب أن جل مواقفه تستند على أدبيات لم تكن من إنشائه و تفكيره الخاص، مثل تقرير الإنصاف والمصالحة وتقرير الخمسينية، جعله يحاول صياغة تصور مجتمعي يقوم على مفهوم “الديمقراطية الاجتماعية” لكن دون تعميقه في التاريخ المحلي لبلادنا من جهة، ودون جعله محط نقاش قوي داخل الحزب وداخل الرأي العام المغربي من جهة ثانية.
ولعل السبب في ذلك يعود جهد إلى عاملين اثنين: الأول هو انشغال الحزب بالمعارك اليومية للحياة السياسية، دون تخصيص جهد كاف لقضايا الفكر والثقافة بشكل عام. والعامل الثاني هو الطبيعة السوسيو-اقتصادية التي شكلت أغلبية منخرطي حزب الأصالة والمعاصرة. إنها طبيعة جد متنوعة، وفي كثير من الأحيان كانت تجمع بين فئات متناقضة داخل المجتمع، لكنها تجد صيغا سياسية للتعايش داخل الحزب. هذا التناقض في التشكيلة الاجتماعية للحزب لم يكن ليسهل عملية بناء تصور إيديولوجي موحد، بل لم يكن يسمح حتى بطرح المسألة الإيديولوجية كشأن داخلي له أهمية إستراتيجية. لأن في طرحه كلبنة أساسية في بناء اللحمة التنظيمية، سوف يخلق تهديدا ليس بالهين لوحدة الحزب و استمراريته. خاصة إذا استحضرنا ملابسات التأسيس التي كان عليها أن تجيب على انتظارات عديدة تهم اتجاهات مختلفة ومتناقضة: الإكراهات الاقتصادية للعولمة، المنافسة السياسية والمجتمعية لتيارات الإسلام السياسي، تقوية الاتجاه التحديثي داخل الدولة والمجتمع…
صحيح أن التوجه الليبرالي الاجتماعي الذي يعبر عنه مفهوم الديمقراطية الاجتماعية، يستجيب لتطلعات قاعدة واسعة من الطبقة المتوسطة للشعب المغربي، لأنه يحاول التوفيق بين الحرية والمساواة الاجتماعية، لكن الحزب و لأسباب عديدة، البعض منها أشرنا له سلفا، بقي محدودا في طرحه لهذا المفهوم، من الناحية الفكرية والثقافية، وغير قادر على تنشيط الجبهة الإيديولوجية داخل المجتمع.
اليوم، ونحن نعتبر حزبنا يخرج من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الترسيخ وبنائه كقوة سياسية صار لزاما على مؤتمرنا الرابع أن يكون مؤتمرا للفكر والإيداع والثقافة. وأن يصوغ تصوره الإيديولوجي كرافعة أساسية في النضال الديمقراطي وتطوير المواطنة والحقوق.
لقد علمتنا التجربة السياسية التي راكمها حزبنا، سواء داخل المجتمع المدني أو داخل المؤسسات السياسية، أن الديمقراطية لا تتقوى فقط بالآليات الدستورية والقوانين، بل كذلك بالعمل الفكري والإيديولوجي الذي يجعلها تنتقل من “حالة السياسة” إلى “حالة اجتماعية” بتعبير ألكسي دوتوكفيل.
وبالتالي من الضروري أن ندشن نقاشا جاد للخروج بتصور خاص بالحزب حول المرجعية الفكرية والإيديولوجية لعملنا السياسي داخل المجتمع، مرجعية تكون منارة للحزب، أمام التناقضات السياسية وإمكانيات التحالفات الحزبية.
4- تحالفات الحزب داخل المشهد السياسي:
تطرح مسألة التحالفات الحزبية على كل تنظيم ديمقراطي، باعتبارها اختيارات أساسية لتقوية الصف الديمقراطي داخل المشهد السياسي. فداخل حياة سياسية مطبوعة بالتعدد و الاختلاف لا يمكن لأي حزب، يعتبر نفسه حزبا ديمقراطيا، إلا أن يرى دوره مساهمة داخل توجه عام يرمي إلى ترسيخ الديمقراطية وتحقيق التنمية.
ولقد سعى حزب الأصالة والمعاصرة دائما إلى مناصرة القوى الديمقراطية والتقدمية، رغم ما أبدته بعضها من تردد و توجس من عملية تأسيسه. وكان الحزب دائما مبادرا إلى تأييد كل ما من شأنه ترسيخ الحداثة وثقافة حقوق الإنسان ودولة القانون داخل الدولة والمجتمع. إلا أن سلوك الحزب إزاء الأحداث والفاعلين السياسيين ظل مطبوعا بنوع من الاختزالية التي تتجلى في جعل كل جهده وإمكانيته وكأنها في خدمة مواجهة تيار الإسلام السياسي الذي شاع صوته في مرحلة ما من تاريخنا السياسي. صحيح أن دور الحزب الديمقراطي هو طرح مشروع مجتمعي بديل عن مشروع القوى المحافظة. ولقد كان حزب الأصالة و المعاصرة دورا مهما في هذا الصدد. إلا أن دوره برز وكأنه اختزل نضاله الديمقراطي في الوقوف ضد حزب العدالة والتنمية، دون الاهتمام بأن يوسع دائرة نضاله وينوع في صفوف حلفائه.
فالديمقراطيون ليسوا دائما حيث ما ننتظرهم، وأعداء الحداثة والديمقراطية في المغرب يتنكرون في أكثر من قناع، وبالتالي فإن الحنكة السياسية تقتضي عمق التحليل في التعاطي مع الفاعلين السياسيين دون طابوهات أو جمود فكري. فالسياسة حقل دائم الحركة والتحالفات ليست مقدسة، والمواقف الديمقراطية محكومة بالتبدل وفق تطور المعطيات ذات الصلة بتحقيق أهدافها. على هذا الأساس لا يمكن للديمقراطيين في المغرب أنيفقدوا حزب الأصالة و المعاصرة داخل منطق الضدية فقط، لأنهم يريدونه أن يكون حزبا يناضل كذلك من “أجل ” وأن لا ينسى تنوع و تعدد الأهداف التي يراهنون عليه لتحقيقها. فأوراش العمل الديمقراطي بقيت مؤجلة مما أثر على الكثير من المناضلين داخل الحزب وعلى المتعاطفين معه من خارجه، وجعل حماسهم في العمل و التأييد يخيب أو يخفت. فالوقوف ضد تيار إيديولوجي معين لا يمكن أن يخفي ضرورة الوقوف كذلك ضد القوى النيوليبرالية المدعومة بالعولمة، والتي تلعب أدوارا لا تخلو من أضرار على الاقتصاد و المجتمع المغربيين. الأمر الذي يفرض على حزب الأصالة والمعاصرة أن يطور أداء تحالفاته الحزبية على أساس اقتراح بدائل ديمقراطية تستقطب مناصرين من داخل الطبقة السياسية والمجتمع المدني.
لذلك؛ وقبل الحديث عن أي تحالف، علينا أن نستحضر في حزب الأصالة والمعاصرة وبصورة دائمة، مكانتنا وحجمنا الحقيقيين، وحدود الإطار الذي نشتغل داخله، ذلك أننا حزب سياسي عاد يشتغل داخل نظامسياسي له تاريخ مركب عبر تراكمات، وضمن فضاء عاممحدده الوحيد هو الدستور والقانون.
فعلينا أن نعي جيدا، أنه مهما بلغت قوتنا السياسية فلسنا الأمة، بل سنظل جزء من الأمة التي تضمنا وتضم الكثيرين غيرنا، نلتقي كلنا تحت سقف عدم المس بالثوابت الجامعة، غير مسموح لنا كلنا المس في أهدافنا بالدين الإسلامي والوحدة الوطنية، والملكية الدستورية وبالاختيار الديمقراطي.
لذلك محدد جميع علاقاتنا السياسية هو احترام القانون باعتباره أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع أشخاص ذاتيين أو اعتباريين متساوون أمامه، فلاحق لحزب على أخر أن يمنحه شرعية الوجود غير الدستور والقانون، ولا أحد يملك مشروعية توزيع صكوك التقدمية أو الرجعية أو الظلامية أو الحداثة. فالأحزاب الوحيدة التي ليست لها شرعية، هي تلك التي تشتغل خارج التعددية وبعيدا عن التناوب الديمقراطي ولا تؤمن بالعمل داخل نطاق المؤسسات الدستورية.