“الحلاق المغربي” لما كان طبيبا وجراحا.. وأشياء أخرى

عندما انتهى "الحجَّام" على أعتاب الحلاقة العصرية؟

عبد الفتاح نعوم

في عمق زقاق ضيق نهايته مغلقة تماما، يتراءى ضوء دكانه الخافت، عند الاقتراب يظهر شيئا فشيئا جسده النحيل خلف ستار مكون من بضع خيوط تحمل عقيقا خشبيا، إنه “سي العربي” يؤدي صلاة المغرب بمحاذاة باب محله، تاركا فسحة ليمرَّ عبرها زواره من أجل الجلوس على دكة خشبية قديمة، والانتظار ريثما يفرغ ويباشر حلاقة شعر أول زبائنه.

كل شيء في دكان “سي العربي” يوحي وكأن الرجل يرفض مغادرة زمنٍ ولَّى، كراسٍ قديمة وإطارات خشبية طبيعية تحيط مرآة المحل، فوضى أغراض أثرية متناثرة هنا وهناك، ضوضاء المكان لا يكسرها سوى هدوء “سي العربي”، “إنه أهدأ الحلاقين وأكثرهم نزوعا نحو الصمت”، يقول أحد الزبائن واصفا إياه، قبل ان يستطرد بالقول: “حينما يشرع في حلاقة الشعر أتخيله عازفا مخلصا لآلته المطيعة”.

صدمة الآلات الكهربائية

لا يفضل “السي العربي ” استعمال الآلات الكهربائية لحلاقة شعر زبائنه، فقط هو قليل من الماء يبلل به رأس أحدهم، ثم يشرع في إطلاق العنان لصوت المقص، مشط طويل وموسى هي نفسها التي حلق بها الأجداد شعرهم ربما، “أفضّلُ أن استعمل المقص، فمعظم زبائني يكرهون صوت الالة الكهربائية”، يقول السي العربي، “أغلبهم ربما يعتقد أن الحلاقة باستعمالها هي محض هراء لا غير!”، يستدرك متندِّرا باستغراب.

بالنسبة للسي العربي، الرجل الستيني، ولأبناء جيله ممن احترفوا هذه المهنة، هناك جمع غفير يطيب له الأسلوب القديم في حلاقة شعر الرأس والوجه، وضمنهم أولئك الذين لم يطبِّعوا بعدُ مع آلة الحلاقة الكهربائية، إنها تفوت عليهم لذة التحكم في مستوى قص الشعر، “معظم الحلاقين الشباب يلجؤون إليها لقلة حيلتهم، وعدم تمكنهم من فن المقص”، يعلق السي العربي قبل أن يربت على كتف الزبون ويزيل الرداء عنه قائلا: “بالصحة”.

يتذكر السي العربي بدايات انتشار آلة الحلاقة الكهربائية، لقد أتقن استعمالها سريعا، لكنه يفضل الأدوات التي تعلمها من والده قبل عقود، “الآلة تجد لها مكانا عند الشباب هذه الأيام، نحن ما زلنا نفضل ما دأبنا عليه”، يردف السي العربي قبل أن يقاطعه أحد مرتادي محله وهو يمرر أنامله على شاشة هاتفه الذكي قائلا: “كل الآلات أحدثت صدمات لدى الناس في الماضي، فقط هي مسألة وقت السي العربي”.

الحجامة والجراحة أولا ثم الحلاقة ثانيا

في حقيبته الجلدية كانت تختبئ مهن متباعدة، هناك بين نتوءاتها وجيوبها تتراكب الآت مختلفة فوق بعضها البعض، فالحجام لم يكن الناس في ما مضى يحتاجونه فقط لتحليق أو تقصير شعر الرأس والوجه، بل كان بالنسبة إليهم طبيبا جراحا أيضا!، ذلك أن معظم أبناء القرى والأحياء الشعبية في المدن قبل عقدين أو ثلاثة كانوا يختنون أبناءهم ويخلعون أضراسهم و يمارسون طقس الحجامة عن شخص واحد، هو نفس الشخص الذي يقوم بحلاقة شعر الرأس والوجه.

يتذكر المهندس الشاب “عبد الرحيم” الذي شارف على نهاية عقده الثالث يوم ختان أخيه، “لقد كان حلاق الحومة هو الذي فعل ذلك، كل ما احتاجه الأمر منه هو “قصرية” ومقص وبعض المركبات الصيدلانية التي كانت مألوفة لمعالجة الجروح”، يصف عبد الرحيم الأمر باستغراب غير خفي.

إذا لم يدعُهُ أحدهم لهكذا مهمَّة، فإن “الحجام” حينئذ كان يبقى في خيمته المتنقلة بين الأسواق، أو ينصبها على أطراف سوق يومي دائم، دريهمات معدودات هي ثمن كل حلاقة، وحكايات لا تنتهي بينه وبين أقرانه والجالسين على كراسيه الخشبية العتيقة، فلا أجمل عند الحلاق من مبادلة الناس أحاديثهم، وجمع النوادر القصص.

ولادة الحلاق

“الحلاق العصري فنان أكثر من مجرد شخص يقوم بتقصير الشهر أو حلاقته”، يقول أنس، الشاب الذي لم يكمل عقده الثاني بعد، فشعر رأسه الذي يحمل زخارفا ونقوشا معقدة ليس بمقدور أي حلاق إنجازها، لابد أن يكون هذا الحلاق متمكنا من استعمال أدوات وتقنيات معقدة.

باتت الأحياء الشعبية في معظم المدن تعرف هي الأخرى بدورها انتشارا لافتا لصالونات الحلاقة العصرية، عدد من الشباب اليافع ينتظرون لساعات أن ينتهي الحلاق من حلاقة شعر أحدهم، يحتاج “سمير” الحلاق العشريني إلى وقت لابأس به يكاد يقارب الساعة والنصف ساعة لكي ينهي طلب الواحد من زبائنه.

يعلق سمير على المهن التي كان يجع بينها الحجام في الماضي متندِّرا: “نحن أيضا اليوم وبالرغم من تخصصنا في الحلاقة العصرية واستعمال الأدوات الكهربائية فقد بتنا مجبرين على تعلم فنون التجميل”، مضيفا ان قسما مهما من الشباب يحرصون على الحلاقة العصرية المصحوبة بتجميل مقاطع من الوجه والحاجبين.

الحلاقون ثرثارون!!!

“الحكي هو ديدن الحلاق منذ أن كان حجاما إلى أن أصبح خبيرا في شؤون التجميل”، هكذا يلخص السي العربي حكاية الحلاق المغربي، صورة أشبه ما تكون بالحلاق الذي جسد شخصيته الممثل المغربي ميلود الحبشي في فيلم “حلاق درب الفقراء”، الذي أخرجه محمد الركاب في بدايات ثمانينات القرن الماضي، فعند الحلاق تجتمع كل قصص الدرب وحكاياته ومشاكله وقضاياه.

“فلان تزوج، وعلان أمه مريضة، وجار عمي عباس تحصَّل على تركة دسمة جراء موت جده”، حكايات لا تكاد تبدأ وتصيب السامعَ التخمةُ من تفاصيلها حتى تنتهي، لتقطعها التعليقات المتسارعة على لقطة لكرة القدم تمر على شاشة جهاز تلفزيون مهترئ يقبع بين كتل الغبار المتجمعة أعلى الركن اليماني للمحل.

استبدل الحلاقون على شاكلة سي العربي فقط الحقيبة والخيمة بالدكان، وأضافوا آلة الحلاقة الكهربائية دون أن يتخلصوا تماما من المقص، وتخلوا تماما عن الحجامة وخلع الأضراس والختانة/الإعدار، ولم يتجهوا نحو التجميل وحلاقة الزخارف. لكن للحديث دفء يستحيل التخلي عنه، دفء يجذب إلى المحل الراغبين في كل شيء بدءا بالحلاقة وانتهاء بالتقصي ومعرفة ما يدور ويجري في مكان ما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى