عبد الرحمن اليوسفي.. وفاة ربان سفينة “التناوب التوافقي” التي لم تكتمل رحلتها

بعد عقود طويلة من النضال السياسي والحقوقي زاوج فيها بين المعارضة والمشاركة في الحكم، رحل عبد الرحمن اليوسفي ربان سفينة “التناوب التوافقي” التي أنقذت البلاد من السكتة القلبية، عن سن ناهز 96 عاما، نحت فيها صورة ناصعة لمسار سياسي غير عادي سيظل محفورا في ذاكرة المغاربة وتاريخ البلاد المعاصر، لم تسمح له الظروف بمواصلة الرحلة المتعثرة وتحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود.

مساره وثقته في المستقبل

ولد اليوسفي في 8 مارس 1924 بطنجة، في حي “الدرادب” الشعبي وسط المدينة، لتبدأ رحلة سياسي فرض على الجميع احترامه وتقديره، لقاء ما تميز به من أخلاق رفيعة ووطنية عالية جعلته أحد رجال الدولة الكبار.

رفض اليوسفي الذي آثر الصمت على الكلام لسنوات طويلة، الرحيل قبل أن يعلن بمناسة تقديم سيرته “أحاديث في ما جرى” في مارس 2018، ثقته في الأجيال القادمة ومستقبل البلاد، وقال: “هي شذرات من مذكراتي وفرصة لنجدد العهد بيننا، وهي السماد الخصب لمشروع بناء مغرب الحريات والديمقراطية ودولة المؤسسات تحت قيادة الملك محمد السادس”.

تكشف هذه الجمل القصيرة، طموح وإصرار الرجل الوطني على مضي بلاده في إتمام الانتقال الديمقراطي بقيادة الملك محمد السادس، وهو الهدف الذي لم يكتب له العيش حتى يراه مكتمل البنيان، غير أن هذه الرسالة تمثل حقيقة اليوسفي الذي آمن بالديمقراطية ودافع عنها وناضل من أجلها طلية حياته.

فالراحل الذي التحق بصفوف الحركة الوطنية وقاوم الاستعمار في وقت مبكر من عمره،وولج عالم السياسة من بوابة حزب الاستقلال قبل أن ينشق مع عدد من رفاقه وهم المهدي بن بركة ومحمد الفقيه البصري والمحجوب بن الصديق وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم، ليؤسسوا حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المنشق سنة 1959، والذي أصبح في منتصف السبعينيات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.

جرب اليوسفي الاعتقال في مناسبات عدة؛ من أبرزها سنة 1959 التي شهدت اعتقاله مع الفقيه البصري مدير صحيفة “التحرير”، بتهمة “التحريض على العنف والنيل من امن الدولة والأمن العام”، بالإضافة إلى اعتقاله سنة 1963بتهمة “التآمر”، والتي صدر في حقه حكم بالسجن لسنتين مع وقف التنفيذ، فيما طالبت النيابة العامة بإصدار حكم بالإعدام بحقه سنة 1969، لكن عفوا ملكيا عنه صدر في شهر اغسطس 1980 ليعود إلى المغرب في أكتوبر من العام ذاته قادما من فرنسا.
وفي تسعينيات القرن الماضي، مع تعقد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب، أيقن الملك الراحل الحسن الثاني أن البلاد في حاجة إلى التغيير لضمان الاستقرار وتأمين انتقال العرش لولي عهده الملك الحالي محمد السادس، فقرر تقاسم الحكم مع المعارضة التي واجهها بقبضة من حديد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

تجربة التناوب التوافقي

اقترح الملك الحسن الثاني على اليوسفي قيادة حكومة “التناوب التوافقي” وتعهد بمساعدته على إنجاز الإصلاحات المطلوبة وخدمة الوطن من داخل المؤسسات، وهو العرض الذي قبله اليوسفي وعين وزيرا أول لحكومة التناوب التوافقي التي انطلقت في فبراير 1998 واستمرت حتى أكتوبر 2002.

ولعب اليوسفي دورا مركزيا خلال هذه المرحلة التي شهدت انتقال العرش من الملك الحسن الثاني إلى الملك محمد السادس الذي يحظى اليوسفي بتقدير كبير لديه، وهي المرحلة التي كانت فارقة في تاريخ المغرب الحديث.

غير أن هذه الأدوار الكبرى لم تشفع لليوسفي عند صانع القرار، إذ جرى الاستغناء عنه في الحكومة التي تلت تجربة التناوب التوافقي، رغم أن حزب الاتحاد الاشتراكي تصدر الانتخابات التشريعية لسنة 2002، وجيء بإدريس جطو خلفا له، الأمر الذي عد في حينه “انقلابا عن المنهجية الديمقراطية”.

ومع هذا الحدث الفارق، فضل اليوسفي الانسحاب في صمت واعتزل السياسة في الوقت الذي قبل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مواصلة المشاركة في حكومة جطو، وهو الأمر الذي شكل ضربة قاضية لشعبيته التي أخذت في التآكل يوما بعد يوم، منذ.

إعادة الاعتبار

بعد سنوات من التواري عن الأنظار، قررت الدولة بطريقتها الخاصة إعادة الاعتبار لليوسفي، فحظي بتكريم خاص من الملك محمد السادس، الذي ظل يخصه بعناية فائقة واهتمام قل ما حظي به سياسي غيره في البلاد.

وكرم العاهل المغربي اليوسفي بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لعيد العرش(2016) بإطلاق اسمه، على أحد شوارع مدينة طنجة التي رأى الزعيم الاتحادي النور فيها ، وهو ما مثل سابقة في البلاد ذلك انها اول مرة يطلق فيها اسم أحد السياسيين على شارع وهو على قيد الحياة، الأمر الذي يزكي المكانة الخاصة التي يحظى بها اليوسفي لدى الملك محمد السادس.

وبعد أشهر قليلة، خص الملك محمد السادس، اليوسفي بالتفاتة إنسانية جديدة بعدما زاره في أحد مستشفيات مدينة الدار البيضاء، التي تلقى فيها العلاج بعض إصابته بالتهاب رئوي حاد، قبل أن يتعافى منه لاحقا، وهي الخطوة التي لاقت استحسانا واسعا من طرف المغاربة ورسخت المكانة الخاصة التي يحظى بها اليوسفي عند الملك.

ظروف استثنائية

شاءت الأقدار أن يوافي الأجل الزعيم الاتحادي في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد التي تواجهها المملكة كباقي دول العالم، وهو ما حرم المغاربة من تشييع أحد زعمائهم السياسيين الذين استطاعوا كسب احترام وتقدير الجميع، وهو ما بدا جليا في وسائل التواصل الاجتماعي التي عمها الحزن وأضحت منصة لرثاء الفقيد وذكر مناقبه.

وبدت الحسرة واضحة على المغاربة من محبي اليوسفي لعدم تمكنهم من المشاركة في تشييعه إلى مثواه الأخير بالطريقة التي تليق به، حيث انتهى به المقام في قبر بجانب رفيق دربه عبد الله إبراهيم، رئيس حكومة المغرب في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، بمقبرة الشهداء في مدينة الدار البيضاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى