ابراهيم الكوني..ولكن الحقيقة شقيق أحق

"أفلاطون صديقي، ولكن الحقيقة صديق أصدق" (أرسطو)

ابراهيم الكوني*

يأبى القائمون على أمر ليبيا إّلّاّ أن يدهشوني، كلّّما حّطّوا في أرض الجوار: الجزائر، طمعاً في أن يحقّّقوا لشعبهم خلاصاً مستعاراً بالمجّّان بمشيئة الخارج: وعلّ السيّّد موسى الكوني، عضو المجلس الرئاسي الحالي، آخر مََن احترف تعاطي هذه الحجّّة، بزياراته المكرورة لهذا البلد الشقيق شعباً، الذي برهنت التجربة كم هو ملتبسٌ حُُكماً.
فالواقع أن هذا الجار لم يكتفِ بأن يخذل أهل الجوار كليبيا أو المغرب أو تونس، ولكنه أبََى إّلّاّ أن يخذل نفسه أيضاً، عندما آلى على نفسه أن يمارس التجديف في حقّ تضحيات أبنائه سنوات حرب التحرير، المترجم في تجربة سياسة ما بعد الإستقلال. فإذا كنّّا في ليبيا ننتمي إلى الجيل الذي لم يعش كابوس الإستعمار الإيطالي، كما عاشه آباؤنا، ولكننا عشنا تجربة كابوس آخر، لم يكن ليقلّ وحشيّّة في نفوسنا الهشّّة، وهو تجربة حرب تحرير الجزائر. تجربة لم نعشها روحيّّاً وحسب، كما قد يتخيََّّل الأغيار، ولكننا عشناها في صحرائنا الكبرى حرفاً، بل خضناها فعلاً! لم يعشها جيل السيّدّ موسى بالطبع، لأن فارق السنّ بيننا مكّّنه من أن يولد بعد انقشاع الكابوس، يولد مع ميلاد استقلال هذا البلد الأبّيّ، بقدر ما هو شقيّ، في مطلع ستّّينيات القرن السالف.
أقول خضناها لأن دور الأب فيها كان رائداً، وهو الذي شاء أن يكون الرسول، الذي يزوّّد حرب الأشقّّاء المقدّّسة بوقود، هو السلاح المستقدََم من مصر عبر ليبيا، فكاد الأب أن يغدو في المعمعة هو الوقود، ليحيا مُطارداً في صحراء الجنوب من قِِبل المستعمر الفرنسي، في وقتٍ كانت فيه فرنسا مازالت تهيمن على جنوب الوطن الليبي طوال الخمسينيات، رغم أنف قرار الأمم المتحدة القاضي بإخلاء البلاد في تاريخ أقصاه 24 ديسمبر من عام 1951 ، في واقعٍ كانت فيه الصحراء الكبرى كلها وطن أمّّة الملثّمّين التاريخي بلا حدود، قبل أن تقوم الفاشية الفرنسيّّة بتقسيمها بين الدول الفريقية، كما تُقسّّم شاة الأضحية في حصص، عشيّّة موسم توزيع شهادات الإستقلال لهذه الدول، لتمزّّق فرنسا، بهذه الهبات المجّّانية، وحدة شعب عاش منذ الأزل موحّدّاً، يتنقّّل في رحاب هذا الوطن الصحراوي بحريّّة.
هذه القسمة الإجراميّّة قطعت أوصال الأسرة الواحدة حرفياً، وهو ما أصاب عائلتنا شخصيّّاً، حيث فوجئنا باغتراب شقيق الأمّ، وراء الحدود، ليقيم في دولة أخرى، الدخول الى أراضيها يستدعي الحصول على تأشيرة دخول، ولا سبيل للحصول على تأشيرة الدخول، نظراً لعدم وجود قنصليّّات أو سفارات لهذه الدولة الوليدة (الجزائر) في عالمنا الصحراوي المعزول في صحاري جنوب بلد آخر هو ليبيا.

ليس هذا وحسب، ولكن عمّ الوالد، الزعيم الشهير، وقائد الكفاح الصحراوي ضد فرنسا، إبراهيم بكّّدة، أخُتطُِف منّّا أيضاً بحكم تشريٍعٍ وضعّيّ مفاجيء، ليغدو أسيراً أيضاً خلف الحدود، وهو ما لم تفلح فرنسا الإستعمارية في تحقيقه طوال حربه البطوليّّة ضدّّها، منذ بداية القرن العشرين، أي قبل أن تندلع الثورة الجزائرية في الشمال بما لا يقلّ عن خمسة عقود.

عمّ الوالد هذا هو الزعيم المجهول، ابراهيم بكّّدة، البطل الذي استجار به قادة الثورة الجزائرية، كي يكون لهم ساعداً أيمن في مشروع التحرير، عندما التقوه في مصر أثناء عودته من تأدية فريضة الحجّ في منتصف خمسينيّّات القرن، ليطرحوا عليه إمكان أن يلعب دوراً في مدّهّم بالذخيرة، بالمساعدة بتهريبها من طرابلس إلى الجزائر عبر الصحراء. وهي الذخيرة التي كان على الوالد تالياً أن يتولّّى تحميلها على قوافل الإبل، إنطلاقاً من جبل نفوسة، والعبور بها إلى حدودٍ لم تكن بالطبع حدوداً سياسيّّة آنذاك، كما لم تكن حدوداً طبيعة أيضاً، اللهمّ إّلّاّ إذا كانت سلسلة جبال تاسيلي مانعاً حقيقياً، لأن العقبة الحقيقية في الواقع كان شبح فرنسا نفسها، التي استطاعت أن تستزرع أشباح مخبريها في كل المسافة الواقعة بين البلدين، لتبدأ تفاصيل حملة البحث عن الوالد في كل الصحراء، لنحيا بسببها كعائلة اغتراباً آخر، داخل صحراء كبرى، هي بالسليقة أكبر اغتراب. ولم يُُكتب للوقود أن يعبر، بسبب حملات التنكيل التي اقترفتها فرنسا في حّقّ الأهالي، لإجبارهم على إماطة اللثام عن الرجل الملثّّم، في صحراءٍ كل الرجال فيها ملثّّمون، فأمر قادة الثورة بإعادة الشحنة إلى السواحل، ليتمّ شحنها في باخرة متّّجهة إلى تونس، ولكن فرنسا أفلحت في تفجير الحمولة بيد الجواسيس في عرض البحر، قبل وصولها إلى تونس.
ومن الطبيعي أن نحيا كأطفال تجربة نزيف روح، ونحن نحيا في الصحراء مطاردين بشبح عدّوّ مجهول، من الطبيعي أن يتحوّّل في وجداننا، الهشّ بعبعاً، بل كابوساً، فلا نغفو إّلّاّ لنستيقظ في منتصف الليل على خيال ربّ العائلة وهو يتسلّّل في غياهب الظلمات ليتفقّّد المرتفعات المجاورة، أو يقضي النهارات وهو يترصّدّ الآفاق بمنظاره المكبّرّ، تحسّّباً لهجمة مباغتة من شبح جورٍ رأى منازلته سداداً لدَيْْن. وتشاء الأقدار أن يهجر الزعيم إبراهيم بكّّدة عالمنا قبيل الاستقلال بأشهر، عن عمرٍ ناهز المائة عام، فأجارته العناية الإلهيّّة من أن يكون شاهداً على فصول الإنكار التي مارسها فرسان الثورة، في حقّ الأبطال الذين كان لهم الفضل في إشعال فتيل الثورة، لأنهم لم يكونوا ليخالفوا طبيعة أيّ ثورة لا تلبث أن ترتدي قناع السلطة ما أن تنتصر! وهو الذي كان له الفضل في مقاومة الاحتلال منذ بداية القرن، مواصلاً تقاليد أسلافه أمثال الزعيم أخنوخن الذي سحق بفرسان الصحراء حملة الجنرال فلاترز في منتصف القرن التاسع عشر، ثم بطولات السلطان أمود ضدّ المستعمر، ثّمّ حملات موسى أغ أماستان في زمنٍ سبق ثورة الخمسينيّّات بعديد العقود. فكيف لا يكون جيلنا ضحيّّة ونحن نشهد في طفولتنا كيف كان رُُسل الثورة يطوفون النجوع لجمع التبرّّعات لما صار في حياة الناس البسطاء قيامة حقيقية. فلا يبخل هؤلاء بما ملكت أيديهم، وبما لم تمتلك أيضاً، في واقعٍ كانت فيه ليبيا أفقر بلد في العالم، ولكن سخاء الروح لم يمنع النساء من التبرّّع بحليّهنّ الفضيّّة ليلقين بهذه الكنوز في جراب التحرير. فلم يكتف الظامئون إلى الحرية بأن يجودوا بحطام الدنيا، ولا امتشاق السلاح ضد العدوّ وحسب، ولكنهم قبلوا أيضا بالموت المجّّاني، تضامناً ضمنياً، وقرباناً حرفيّّاً على مذبح الخلاص، كما برهنت تجربة التفجيرات النووية الفرنسيّّة، لتهلك نجوع كاملة بمفعول السموم النووية، فتغدو قوافل كاملة ضحيّّة الهباء القاتل، في مشاهد كابوسيّّة تحوّّلت فيها الصحراء مقبرة جماعية خرافية، لتبدأ رحلة اغتراب الصحراء عن الصحراء، فتضطرّ القبائل لأن تهجر الصحراء، كما حدث لأمثالنا عام 1958.
وعلّ أوّّل صدمة تلقّّاها جيلنا، المجبول بنزيفٍ إسمه جرح الجزائر، هو قيام كيان وليد، مازال مجلّّلاً بماهيّّة الضحيّّة، بشنّ حرب ضد شقيٍقٍ هو المغرب، بعد الإستقلال مباشرة، أي قبل أن يجفّ نزيف الروح في قلوب كل أولئك الذين كانت حرب تحرير الجزائر حرب تحريرهم شخصيّّاً، لتحرّّر هذه التجربة التراجيديّّة مارد العداء من القمقم، ليهيمن شبحاً على العلاقة بين البلدين إلى اليوم، لتتوالى بعدها الصدمات، في زمٍنٍ مازلنا نتغنّّى فيه بما صار في ألسنتنا تعويذةا، وهو «ميثاق طرابلس»، الذي كان له الفضل في تحقيق معجزة الاستقلال للبلد الوحيد الذي لقّّننا المعجم السائد باستحالة انتزاعه من براثن فرنسا!
ثمّ توالت الصدمات بيد السلطات، لأن عرف السلطة، هو أن تتنّكّر لكل ما وعدت به الثورة، كل ثورة، وليس لثورة وطنيّّة حقيقية كثورة الجزائر، أن تكون في القاعدة استثناءً. ذلك أننا كنّّا نجهل بحكم السنّ طبيعة الإنسان عندما يتلبّّسه مسّ الثورة، هذا المسّ الذي أبدع في تشخيصه إمام الفوضويين الروس، ومهندس النزعة الإرهابيّّة التي ترجمها في اغتيالات ضدّ قياصرة القرن التاسع عشر، ليُُلهم ديستويفسكي عمله المرجعيّ الذي صار إنجيلاً للوجودية الأوروبية وهو «الممسوسون». هذا المهووس هو: نيتشايف، الذي يصف الثائر فيقول أنه مخلوق من طينة منذورة للعدم، بدليل أنه بلا أهواء، بلا منافع، بلا إحساس، بلا إنتماء، بلا إسمٍ حتّّى، باستثناء إفيون وحيد هو الثورة، ليحقق بهذه العقلية قطيعة مع الواقع، ومع الواجب نحو المجتمع، ومع العالم، ومع أخلاقيّّات هذا العالم، حتى أنه لا يحيا في هذا العالم إّلّاّ لكي يدمّّر هذا العالم، ولذا فهو ليس ملزماً بأن يتسامح مع علوم هذا العالم، لأن العلم الوحيد الذي يتقنه هو الهدم، لأن كل ما يخدم الثورة في نظره عملٌ أخلاقيّ.
فبعد صدمة الحرب مع الشقيقة المغرب، بدأت التصفيات الجسديّّة لرموز الثورة داخل البلاد وخارجها، (ربّّما بسبب انتماء جلّ هؤلاء الزعماء لهوية ثقافية هي أقلية، لم تشفع لها حّجّة كونها هوية أصلية). كنّّا ننزف روحاً، ونحن نتلقّّى في الإذاعات المسموعة أنباء مشؤومة عن اغتيال أبطال التحرير في أوروبّّا بيد سلطة التحرير؛ لنقنع أخيراً بأن في انتصار أي ثورة، تكمن هزيمة أيّ ثورة، لأن التراجيديا عجز الثورة أن تدّّعي نصراً دون أن تسلّّم الزمام لسليل جحيمٍ نسمّّيه سلطة. السلطة التي لا تهنأ بالاً، ما لم تسفّّه كل المباديء التي تبنّّتها كل ثورة، فترتضي أن تبتني عرشها على جثّّة الثورة!
ولكن جيلنا كان حالماً بما يكفي كي يفهم لغز هذه المعادلة العدميّّة.
كيف نعترف بالأحجية إذا كان نزيف أبطال الأمس يسري حارّّاً في وجداننا، وخلاص الجزائر في أذهان أبناء الجيل مرضنا، والحريّّة لشعبها لم تعد مجرد حرية لنا أيضاً، ولكنها صارت هاجساً قريناً لاستعادة فردوسنا الضائع، وبعثها من اغترابها هو البعث لنا من موت، نحن الذين نصّّبناها في وجودنا المثال الأبعد منالاً من كل مثال. فآمنّّا بها معبوداً ينازع في سطوته مقام المعبود؟ فبأي حقّ، بأي حكمة، نستطيع أن نستوعب قدرة السلطة، على وأد المباديء التي اعتنقتها الثورة، لتفلح بنزيف الروح، الأسمى بما لا يقاس من نزيف الدمّ، في تحقيق الحريّّة؟
ولكن مفاجآت الجزائر كسلطة لم تقف عند هذا الحدّ. فقد كان لزاماً علينا أن ننتظر أمداً آخر كي نشهد كيف تزحف الجزائر لتبتلع ما تبقّّى من أراضي ليبيا التاريخيّّة، بعد أن بدأت في استثمار ما حصلت عليه من فرنسا زوراً، فاشتعلت شهيّّة القائمين على أمرها للإستحواذ على المزيد. أمرت سلطات النظام باجتياز الحدود، وابتلعت جبال تاسيلي التاريخيّّة، بسعيٍ محموم، كانت فيه قوى الحدود الليبيّّة تنسحب بانتظام لتفسح المجال، بدون قتال، لعدوٍّ مشفوعٍ بهوية الشقيق، تنفيذاً لتعليمات السلطات الليبية، التي ظلّّت تتحجّّج طوال هذه الحملة بالتسامح، بدعوى حقن دماء الأشقّّاء، لأن مقاومة الزحف الجزائري يعني نشوب حرب بين البلدين، ولكن الجزائر لم تتسامح، وها هي تقف على مشارف غات!
هذه النزعة العدمية، نزعة «كل شي مباح»، التي اعتاد أن يعتنقها كل مريد ثورة، هي ما دفع برئيس النظام هواري بومدين، لأن يستقلّ الطائرة يوماً، لينزل ضيفاً على القائم بأمر ليبيا في أحد أيام 1976، ليحرّّضه على التخلّّص من شخص صاحب هذا البيان، بدعوى خطورة مزعومة على الأمن القومي العربي!
والسرّ؟ّ
السرّ كشفت عنه الأيام بعد مرور أعوام، بطله كان كتاباً لي معنوََناً بـ «ثورات الصحراء الكبرى»، الصادر عام 1970، وتمّّت مصادرته في ليبيا في حينه، تنفيذاً لتقارير استخباراتيّّة، وهي التقارير الأمنية نفسها التي زكّّت للرئيس أبو مدين خطورة الكتاب المزعومة، فاعتنق الموقف ضدّ المؤلّّف مسبقاً، دون أن يكلّّف نفسه عناء قراءة الكتاب، الذي خلّّد انتفاضات الأمّّة الصحراويّّة الظامئة للحريّّة، ضدّ الاستعمارَين الإيطالي والفرنسي في شمال إفريقيا، وبدل أن يُحتفََى بالكتاب كحدٍَثٍ في تلك الأيام المفلسة من المعنى، ومن كل ما متّ بصلة للحقيقة، يُسُمح للأجهزة الأمنية، بأن تفتي في شأن القضايا الفكرّيّة المصيريّّة. وهو كتابٌ له تاريخ. فقد نُُشر على حلقات عام 1969 في جريدة «الثورة» إبّّان قيام شخصي بالإشراف على قسم الجريدة الأدبي، بعد إيقاف إصدار صحف العواصم الثلاث للمرّّة الثانية في أقل من عقد من الزمن. فبعد الثورة الإصلاحية التي قام بها الدكتور فكيني، رئيس حكومة العهد الملكي، ليتمّ بموجبها إلغاء العمل بالأقطاب الإقليميّّة الثلاثة: طرابلس، وبرقة، وفزّّان، بوصفها تكريساً مستعاراً من عهد الاستعمار لمفهوم الإنقسام في حقّ الوطن الواحد، ليتم استبدال أسماء صحف هذه العواصم إلى «البلاد»، بدل «فّزّان»، و«الأمّّة» بدل «برقة»، و«العلَمَ» بدل «طرابلس الغرب»، لتأتي حركة سبتمبر 69 لتشطب من الواقع الإعلامي هذه القسمة أيضاً، بإلغاء الصحف الثلاث، وضمّ كوادرها الصحفية في صحيفة واحدة هي «الثورة». في هذه الصحيفة بدأتُ نشر «ثورات الصحراء الكبرى»، التي استفزّّت الفرسان الجدد، بوحيٍ من الآفة الشقيّّة، الملقّّبة باسم الأيديولوجيا، لتصدر الأوامر بإيقاف نشر الدراسة. ولكن الأوامر تزامنت مع تعيين أديب مخضرم، وإنسان حكيم، مدجّّج بعقل فكري شجاع، مفعم بروح حبّ الوطن، وصاحب تاريخ في الدفاع عن الحقيقة، طوال العهد الملكي، وهو العزيز أمين مازن، الذي تولّّى هيئة المطبوعات آنذاك، التي تصدر عنها الجريدة، خلفاً لعقليّّة عسكرية، منتدبة من مجلس قيادة الثورة، هو السيد عبد الحفيظ الميّّار، حسبما أذكر. وكان أمين مازن أميناً بما يكفي، وشجاعاً أيضاً، كي يرفض قرار مجلس الثورة بإيقاف نشر الدراسة، ويأمر بالإستمرار في نشر الحلقات، حتى نهاية 69 ، لتصدر في كتاب عام 1970، انتصاراً للمبدأ الذي آمن به دوماً، ونازع الخصوم في سبيله أبداً، وهو قدسيّّة حرية التعبير، ليدقّ بمخالفته قرار الثورة، المسمار الأول في نعش قمع حرية التعبير، ليجني مقابل هذا التحدي العزل من منصبه.
ولكن أمين مازن إذا أفلح في إنقاذ الدراسة بمواصلة نشرها على صفحات الصحيفة، لم يكن بوسعه أن يجير الكتاب من بطش الرقابة، لتتم مصادرة الكتاب، في وقتٍ تمّ فيه عزل الرجل من منصبه قبل شهور. وقد روى لي السيّّد محمد الشاوش نائب رئيس التحرير كيف تلقّّى مكالمة هاتفيّّة من المرحوم صالح بويصير وزير الوحدة والخارجية آنذاك، معبّّراً عن استنكاره لنشر الدراسة بعبارة: «أين عثر الكوني على هذه الثورات؟»، ولا يدري الرجل أنه يعترف ضمنيّّاً بجهله بواقع ليبيا الصحراوي الشاسع، بهذا الإحتجاج. وهي رذيلة اعتدتُُها منذ العهد الملكي من الصفوة، التي لا تكتفي بأن تجهل واقع الوطن الانثربولوجي، أو حتّّى الجغرافي، أو الإثني، أو كل ما متّ بصلة للدواخل، ولكنها تجهل أيضاً تاريخ الوطن برمّّته،
فكيف بحقيقة الوضع التاريخي المجيد الذي كانت فيه ليبيا قارّّة تستوعب كل الصحراء الكبرى، بما في ذلك العمق الإفريقي، المنتمي حتّّى سياسيّّاً إلى مركز في الشمال، هو، في واقع القارة، قطب.
فإذا كان سبب استنكار الصفوة الثقافية هو الجهل بواقع وطنٍ بُُعث بالاستقلال من صميم العدم، فإن سرّ استنكار النخبة السياسية آنذاك هو أمني في الأساس، لأن الحرص على الأمن في ذاك الأوان كان هو الأساس. فالحديث عن الثورات يُُعتبر، في منطق الأنظمة الجدد، تحريضاً على تعاطي الثورة، دعوة للقيام بثورة، لتصحيح الآثام التي اقترفتها الثورة، في حقّ تجربة سّوّقها الخطاب المعتمد كمفهوم مجبول بالقداسة مبكّّراً، ولكن واقع السلطة خذلها في تحقيق ما وعدت به كعادة الثورات، ولم تجد حجّة تبرّّر بها وجودها في السلطة سوى استنزال حكم التحريم، الذي ينفي وجود أيّّة ثورة في تاريخ الوطن، باستثناء ثورة فاتح نوفمبر، أو فاتح سبتمبر، وهي لهذا السبب، في المسيرة رسالة ختام!
فهل تغيّّر موقف الجزائر العدائي من وطنٍ شقيّ كليبيا؟
لم يُخفِ النظام في الجزائر عداءه لثورة فبراير، ربّمّا خوفاً من أن تنتقل العدوى إليه، فاحتضن رموز النظام في أرضه، وعندما تحوّّل الوضع إلى حرب أهليّّة، قام، عكس مصر وتونس، بقفل الحدود في وجه جرحى الحرب، بل ورفض عبور المواطنين الملتحقين بذويهم في الجانب الآخر (الحدود التي كانت مفتوحة بموجب ميثاق الإتحاد المغاربي، والمفارقة أنها كانت مفتوحة حتى في العهد الفرنسي، ليأتي الإستقلال فيمّزّق أشلاء اللُُّّحمة العائلية الواحدة للشعب الواحد)، منتهكاً بذلك حقّ لملمة الشمل العائلي، المعمول به في القوانين الدولية، ولم يكتفِ، ولكنه أصدر التعليمات لأحراس الحدود بإطلاق النار على هؤلاء، فاستشهد الكثيرون على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، الذي آلى على نفسه أن يتسامح في حّقّ سلطات الجزائر، على نحو يخفي وجود نيّّة مشبوهة. والدليل تجاهل هذا المجتمع لفضيحة إلغاء إستفتاء الشعب الجزائري، في تسعينيّّات القرن، الذي حقّّق فيه الإسلاميون نجاحاً ساحقاً، ليؤّدّي إلغاء الإستفتاء إلى حرب أهليّّة، استغرقت أعواماً، ذهب ضحيّّتها عشرات الآلاف.
وها هو دور سلطات الجزائر يعمل المستحيل كي يلجم حركة تحرير أزواد في حقّ تقرير المصير، ويقمع كل أمل في التوصل إلى اتّّفاق مع الخصوم في دولة مالي، إمعاناً في إنكار الوفاء في حّقّ الأزواديين الذين أجاروا ثوار الجزائر يوماً، وكانوا لهم ساعداً أيمن في الكفاح ضدّ المستعمر، واكبر برهان سيرة الرئيس الأخير عبد العزيز بو تفليقة، الذي انتدبته جبهة التحرير ليمثّّلها في ديارهم منتحلاً اسم «عبد القادر المالي» كإسم حركي. وهو الموقف نفسه الذي تبنّّته الجزائر في حقّ الأزمة الليبيّّة طوال العشريّّة الآنفة. فما هي المزايا التي تستطيع سلطات الجزائر أن تتباهى بها، بعد كل هذا، كي تبيح للمسئولين الليبيّّين التسابق لخطب ودّّها، طمعاً في خلاصٍ لم تحقّّقه لنفسها، ومن بينهم عضو المجلس الرئاسي الحالي موسى الكوني، الذي احترف الحجّ إلى رحابها، لا في ولايته الحالية وحدها، ولكن أيضاً في ولايته الأولى، التي توّّجت بالإستقالة، التي انتصر فيها على نفسه، بوحيٍ من حريّةٍ، كانت معبوداً مستعاراً من تجربة الأسلاف، يقيناً منهم أن البطولة في الاستقالة: كل استقالة، سواء أكانت من علاقة، أو من سلطةٍ، أو حتى الاستقالة من الوجود المسمّّى في لسان الأغيار إنتحاراً؟ وعلّ ما سيُحسب له أن استقالته السالفة من الرئاسي السالف، في ولايته الأولى، لم تكن الأولى، وآمل أّلّاّ تكون الأخيرة؛ فقد سبقتها استقالات، الأولى من منصب أمين اللجنة الشعبية لبلدية أوباري في تسعينيات القرن الماضي، ثم استقالته من عضوية المجلس الإنتقالي منذ عشرة أعوام، مما يبرهن على حسٍّ تهيمن فيه روح السلف، التي لم تتردد يوماً في أن تطرح السلطة قرباناً على مذبح الحرية، لتكون جديرة حقاً بوسام خلود، الذي خلعه أمير الشعراء أحمد شوقي، على أمير الشهداء عمر المختار في مرثيّّته:

«إنّ البطولة أن تموت من الظمأ

ليس البطولة أن تعبَّ الماء»
كأنّّه التعبير الصريح للوصيّّة المترجمة بسيرة إمبراطور الصين الذي قرّّر يوماً أن يعرض على صديقه الحكيم التنازل له عن عرش «ما تحت قبّّة السماء» (أي الصين)، فاستمهله الحكيم أمداً كان كافياً كي يتمكّّن من إحكام لوح الحجر على جسده ليرمي بنفسه في نهر «لُُو» استنكاراً لعرضٍ رآه إهانة لا تُغتفر!
فما الذي تستطيع سلطات الجزائر أن تهبه لليبيا، وهي التي تنصّّلت من كل واجباتها نحو أبنائها، ولم تكتفِ، ولكنها فعلت كل ما بالوسع كي تكسب عداء جيرانها، وكيف لا وهي التي تنكّّرت لماضيها، المترجم في إسم «نوميديا» المجيد، لتستبدله باسمٍ عارٍ من المنطق، ومن الحقيقة، تيمّّناً بإسم جزيرة بائسة، تعاند أنفاس النزع الأخير أمام سواحلها؟ ألم يكن إنكار الإنتماء منذ الأزل تنصّلاً من أصل؟ وما هو التنصّّل من الأصل إن لم يكن اعترافاً ضمنياً باعتناق هويّّة الدخيل مرجعاً؟
فإنكار الإحسان رذيلة إنسانيّّة شائعة، ولكن ما ليس شائعاً هو إنكار ما كان في أعراف كل الأمم قدس أقداس، كما الحال مع ذخيرة الماضي، التي لن تبقى مجرد ميراث، أو مجرد رصيد، ولكن الذخيرة هنا هي الترجمان الصريح لروح الأمّّة. وفي حال الجزائر، فإن الموقف من حضارات نوميديا عدميّ تماماً. عدمّيّ لأن أولياء الأمر الذين تعاقبوا على حكم هذا الوطن المجيد كانوا موسوسين بما يكفي كي يعتمدوا، في حقّ الوطن، قصاصاً جنونياً، مترجماً في متن قطيعٍةٍ حقيقية. فمملكة نوميديا ظلّّت شوكة في ظهر كل غزاة ماكان يُُعرف بإسم «ليبيا» زمن ما قبل التاريخ، أي كل شمال
إفريقيا، بما في ذلك الصحراء الكبرى. فكم استشرست امبراطوريّّة قرطاجة لإخضاع نوميديا لسلطانها دون جدوى، إلى الحدّ الذي اضطّرّ فيه الزعيم الأسطوري مسّينسّّا للتحالف مع قرينه الأسطوري «سكيبو»، الملقّّب باسم «إمليان الإفريقي»، الذي دمّّر قرطاجنّّة، ليستعيد مسّينسّّا عرشه في نوميديا.
ألسنا مدينون اليوم لحجر مسّينسّّا، المزبور بالحرف الليبي القديم، وهو «تيفيناغ» طوارق اليوم، بحكمة دهاة ذاك الزمان، الذين كان مسّينسّّا أحد الرموز في محفلهم، منذ ما يزيد على الألفي والثلاثمائة عام؟ ألم ترث الأجيال كفاح «يوغرتن»، حفيد مسّينسّّا، في حروبه الباسلة، ضّدّاّ أرباب الدهاء الحربي الروماني أمثال، غاي ماريوس، أو خصمه «صوّلّاّ»، فأعجزهما، ولم يفلحا في الإيقاع به لو لم يستجيرا بما كان في عرف الإنسان الروماني عملا خسّّيساً، بل عاراً، وهو: المكيدة؟
أليس جديراً بأن يتوارى خجلاً أولئك الذين خلعوا شرعيّّة على محو إسم «نوميديا» من الذاكرة الوطنيّّة، وهي التي أنجبت ذلك الإنسان، المسكون بروح ألوهية، المعروف في حوليّّات التاريخ باسم القدّيّس أوغسطين، الذي كان له الفضل في توطيد كيان الديانة المسيحية بسلطان الإيمان؟
لقد تنازعت سبعة عواصم يونانيّّة كبرى شرف إنتماء هوميروس إلى ترابها، تيمّّناً بروح هذا الطّّيف، كما تنازعت بالأمس القريب المكسيك، وكولومبيا، رفات غابرييل ماركيز، لأن احتضانه ليس مجرد شرف تحاجج به الأمم، ولكنه، مثل رفات «أوريست»، تعويذة تجير من الشرور! هذا في حين يأبى جنون أغيارٍ إّلّاّ أن يتنصّّل من مسوح القداسة، ليرتدي الأسمال بديلا، مطلقاً بذلك النار على ذاكرة الحكمة من فوّهّة مسدّّس، في حمّّى نسيانٍ، لن يتردّّد في أن يطلق كمستقبلٍ النار على أبطال المهزلة من فوهة مدفع، كما يروق حكيم القوقاز الشيخ أبو طالب أن يتغنّّى!
لهذا الواقع المفلس، المعادي للحكمة، يروق القائمون على أمر ليبيا اليوم أن يحتكموا، طلباً للخلاص من واقعهم المفلس.
فهل الدعوة لحكم المنطق يمكن أن يُرجَمَ بالتجديف في حّق عهد مقدّّس، مبرم بميثاق الدمّ، كما العلاقة مع فارس المسرحية الشقيق؟ أوَ ليست الحقيقة دَينٌ أحقّ، من استحقاق دَيْنٍ مترجمٍ في مفردة شقيٍٍق؟
فإذا كان موسى هو الشقيق الذي لقّنتُُه في الطفولة درس الأبجديّّة في اعتناق دين «إقرأ»، الذي نصّّبه التنزيل العزيز مفتاح سحرٍ للحلول في حرم الحقيقة، فليس لي اليوم أن أدّّعي تلقينه ذخيرة المعجم، لأن الحقيقة هي الغنيمة الوحيدة التي ترفض أن تُُنال بالمجّّان؛ وما الآثام التي نقترفها في تجربتنا الدنيوية سوى الوقود المستوجََب في حقّ حُجّّتها.
أقول هذا ليقيني بأن خلاص ليبيا ليس غنيمة يستطيع المسئولون أن يستوردها لنا من خارج الحدود، كما اعتدنا أن نستورد كل مستلزماتنا الضرورية، ولكنها رهين داخلنا، رهين واقعنا، رهين تغيير ما بأنفسنا، بتغيير مفهوم علاقة إنساننا بأخيه الإنسان، وليس على أخيارنا إّلّاّ أن يقبلوا التنازل عن نصيبٍ من أنانيّّتهم، وحتى من حقوقهم، مقابل الفوز بسِلْمٍ هو عتبةأولى في سُلّمٍ، التنوير فيه وسيلة، أمّّا التطوّّر فيه فهو الغاية، إذا شاءوا تحقيق صُلحٍ يخفّّف من وطأة الاستنفار، الذي أسهم في إشعال فتيل الحرب الأهلية، واعتناق اليقين بعدم وجود سبيل لاستقرارٍ حكيم ودائم بدون الإقلاع عن إفيون الاستقواء، بعونٍ مستعار من خارج، تنفيساً عن كراهة، هي في الواقع ظمأ للإرتواء من نزيف دم، ظمأ سلخ من عمر الوطن عقداً من الزمن؛ لأن البطولة لم تكن يوماً من نصيب مََن حقّّق غلبََة في حّق أخيه، ولكن البطولة وسامٌ على صدر مََن أفلح في قهر هواه!
الواجب الأخلاقي يملي، قبل كل شيء، الكفّ عن تعاطي الأوهام. فليس الانتخابات ما سيجلب الخلاص لليبيا. ليس السباق نحو شغل الكراسي، سواء أكانت مقاعد في قاعة برلمان، أو كانت عروش رئاسة. ولكن الواجب يُُملي مواجهة الحقيقة، وهي الحاجة لوجود خارطة طريق تبدأ بخوض معركة تنوير. لأن تحرير ما بواقعنا الروحيّ، يمرّ عبر بوّّابة التنوير. تنويرٌ يبدأ بالشغف لطرح الأسئلة، لأن أي مسألة، إنّّما هي رهينة حكمة الأسئلة، لأن بدون النّّهم لطرح السؤال، لا طمع في الحصول على جواب. الجواب الجدير بحمل جنينٍ نفيسٍ هو الأمل، لأن مََن أعجزه أن يحترف الآلم، ليس له أن يطمع في أن يحقق الأحلام. وهي تجربة تستوجب الشجاعة: شجاعة تحرير ما بالنفس.
وأيّ تحريرٍ يستطيع أن ينزّّه عمقاً بلا قاع كالنفس، ما لم ترتِضِ النفس اعتناق الحبّ ديناً؟
*كاتب ليبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى