دعوات في أصيلة إلى تحرر الشعريات العربية من معايير التلقي الغربي

بن عيسى:الجهل هو المكون الأساسي لسوء التفاهم والصورة المميزة لنا لدى الآخر

دعا مثقفون وشعراء مغاربة وأجانب إلى ضرورة تحرر الشعريات العربية من تأثير الشعر الغربي، فضلا عن إقرار تفاعل وتقارب وجداني فاعل ومؤثر بين الشعر العربي وشعريات عالم الجنوب في كل من إفريقيا وأميركا اللاتينية، في لقاء شعري، احتضنه مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية في أصيلة، الأحد، في سياق الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي ال43.

الخسارات الكبرى للشعر العربي

وقال الكاتب والناقد المغربي شرف الدين ماجدولين :” كانت المقارنات الأكاديمية تطرح حول تأثيرات طاغية وافدة من تجارب كانت دائما مهيمنة ومركزية، إنجليزية و فرنسية وتبعاتها، في ظل السؤال المطروح:كيف يمكن أن نخلق جسرا بين لغات وشعريات خضعت لنفس الظروف والاستعمار وبينها قواسم مشتركة؟ ولماذا لم نناقش تأثير إفريقيا وأميركا الجنوبية على الشعر العربي ولما نخشى مقارنة أنفسنا بمن كان لهم قدر يشبهنا وأفق سنتقاسمه دوما؟”.

وأضاف ماجدولين:”ما نقتسمه لا يتعلق فقط بالسياسة والاقتصاد وإنما ثقافة مشتركة نؤمن بها ويجب أن تكون عنصرا في مستقبلها”.

واعتبر ماجدولين أن من الخسارات الكبرى للشعر العربي هو تناوله فقط من طرف المختصين فيه، داعيا إلى ضرورة الاستماع لغير المنشغلين به أكاديميا لإثراء المشهد الثقافي والأدبي عموما.

من جهته، أوضح محمد بن عيسى، رئيس مؤسسة منتدى أصيلة، وجوب الحديث عن التأثيرات الأخرى في الشعر العربي مثلا، مضيفا:”بالنسبة للعرب، فثلثي العرب في العالم موجودون في إفريقيا، إذا أخذنا السودان والهلال الشمال إفريقي ونواكشوط، بوجود أكثر من 200 مليون عربي، كما أن 30 إلى 40 في المائة من الأرض الإفريقية يسكنها ناس من أصول عربية، لذا ليس غريبا أن يكون هناك تأثير لهذ الوجود على الشعر العربي، من ناحية أخرى، الهجرة الأولى للإبداع العربي كانت في أميركا اللاتينية، من خلال اللبنانيين والسوريين خاصة، وبعدهم آخرون أسسوا مؤسسات ثقافية في أميركا اللاتينية بعدما هاجروا إليها، حيث وصلوا لمراكز سياسية واقتصادية ، وانصهروا في المجتمع، في البرازيل مثلا، القوة البارزة في الإعلام تظل عربية، في كل من ساو باولو وبرازيليا ونفس الشيء نجده في الشيلي وكولومبيا والأرجنتين”.

مفاهيم استعمارية

وقال بن عيسى:”الجهل هو المكون الأساسي لسوء التفاهم والصورة المميزة لنا لدى الآخر، فالأفارقة طعموا بمفاهيم استعمارية انتهت لكن بقيت آثارها لليوم، بالنظر للعربي بطريقة غير صحيحة والعكس صحيح، هم لهم تصورات وتمثلات للإنسان الإفريقي قائمة على الجهل، وفي المقابل، نجد لغات وتاريخا حضاريا كبيرا في غرب وشرق إفريقيا ونفس الأمر بالنسبة لأميركا اللاتينية”.

واعتبر بن عيسى أن موسم أصيلة شكل لحظة تقاطع بين أسئلة وافدة من منابع شتى من الفكر والسياسة والاقتصاد والتشكيل والموسيقى والآداب، لحساسية ثقافية رفيعة، تتوق أصيلة لإشاعتها ترسيخا لقيم السلام والحرية والرقي والتسامح.

وشدد بن عيسى على أن اللقاء الشعري يمثل لحظة في مقاربة تجربة شعرية متغيرة الظلال يتدخل فيها الهاجس الجمالي بالانشغالات الفكرية، فعلى امتداد أزيد من 40 سنة، طرح الموسم أهم منجزات الشعر في علاقتها بقضايا الحداثة والتلقي والتجريب وقصيدة النثر قبل أن ينتهي خلال هذه السنة إلى الشعر العربي وشعريات عالم الجنوب، وكلها قضايا طرحت مقترنة بالإنجازات الشعرية العربية والإفريقية بحضور أصوات تباينت طرائقها في التعبير الشعري، في إطار لقاءات تعكس آفاق التجريب، ليبقى السؤال ما جدوى كل ذلك؟، و إلى ما قد يفضي الإصرار على أن يكون للشعر العربي حلقة في الموسم في لحظة تباعدت فيها الشقة بين الشاعر وجمهوره؟ وهل هو سعي لتكريم مكون رئيس من مكونات الحداثة الأدبية العربية؟ وهو المعنى الأقرب للتصديق الآن، بالسعي للاحتفاء بكيان الشاعر ورد الاعتبار للقول الشعري.

وأكد بن عيسى أن جلسات القراءة تهم لحظات تماس مدهش بين الصوت المتخيل للشاعر وتحققه الحسي، كحدث أدبي مليء بالأحاسيس وأيضا أفق لمناهضة محيط البشاعة والابتذال، لتتضح رسالة الموسم الثقافية باصطفاف إلى جانب قناعات، مافتئت مؤسسة منتدى أصيلة تدافع عنها عبر سنين طويلة من العمل الثقافي المتواصل لإشاعة مناخ بطابع التعدد وروح المغامرة الإبداعية وينشد فيه الجميع قيم الجمال.

انعدام التواصل الثقافي

بدوره، سجل الناقد والمفكر العراقي عبد الله إبراهيم، ، التفاعلات المتبادلة بين أشعار العرب الحديثة ونظيرتها في الجنوب والتي تبقى دون ما ينبغي أن تكون أوأقل بكثير مما يجب، بالإضافة إلى أن التواصل الثقافي شبه معدوم رغم تقارب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعراء هذه المناطق.

وقال ابراهيم:”لا ننكر أهمية التفاعل بين الآداب أيا كانت لأن الإنكار مستهجن، برغبة الجميع في التفاعل، وتمت ظاهرة ملفتة للانتباه تحتاج لتعديل بعد اعوجاج والتواء طويل، وتهم تأثر الشعر الحديث بالشعر الغربي، إذ أنه من المستعبد أن يكون أحد الشعراء الغربيين قد تأثر بشاعر عربي عاصره، وبالمقارنة فالتفاعل بين الشعراء العرب والجنوب شبه نادر أو معدوم، لغياب التواصل، كما أنه لا تلوح بوادر لهذا التفاعل، وكلها أمور بحاجة لتفسير.

وزاد مبينا:”البلاد الناطقة بالعربية سقطت تحت الإمبراطوريات الاستعمارية الفرنسية والإنجليزية والإسبانية مما جعل تأثيرها متبوعا بتابع، فالحضارة الغربية تصوغ حتى خيالات التابع، تصلح للأخذ بها كوسيلة لتحليل هذه الظواهر، فضلا عن التبعية الاقتصادية والثقافية العمياء، بتأثير سلبي، يشمل المحاكاة التي أخذت بها تيارات الشعر العربي الحديث في تقليد الشعر الفرنسي والإنجليزي، مما حذا بالتعريف بالشاعر بالسطو على هوية أجنبية مغايرة كأنه نكرة، وهو أحد أخطر نتائج التجربة الاستعمارية وأرذل ما تبلغه الآداب من انهيار في قيمها الدلالية والبنيوية، حيث أرغمت التجربة الاستعمارية الآداب العربية بالتغذي على فضلات الأمم المستعمرة، حتى أمست قيمة الشاعر العربي تقاس بمقدار محاكاته لشاعر فرنسي أو إنجليزي”.

واعتبر ابراهيم أن أشعار أهل الجنوب تعاني من التجربة ذاتها ومنها آداب أميركا اللاتينية، فالتيار التأثيري يتجه بشكل واحد من الشمال للجنوب، وبالتالي ينبغي استواء العلاقة بشكل من التوافق.

وأضاف ابراهيم :”القضية الثانية تشمل الاختلاف في التأثيرات في اتجاه الدرجة وليس النوع، فعلى الرغم من تشابه الأحوال بين العالم والعربي وكثير من دول الجنوب، إلا أننا لا نكاد نعثر على تأثيرات تذكر مع الأسف بين آداب تلك الأمم، بوجود قطيعة ظاهرة بين الشعرين العربي ونظيره الجنوبي، فشعراء الجنوب يكتبون ويحلمون باللغات الاستعمارية، معتقدين أنها هي التي تمنح الشرعية.

وسجل ابراهيم استغرابه وانزعاجه من غياب التواصل بين آداب أمم تربطها روابط كثيرة مما يكشف عمق الهوة التي تفصل بين أمم متماثلة وآداب متباعدة.

علاقات ظرفية ومفككة

من جانبه، لفت الشاعر السوري نوري الجراح إلى مدى معرفة الشعريات العربية بذاتها ومغامراتها وجديدها وقديمها، معتبرا أن العرب أمام مغامرة كبرى لا يمكن إطلاق أحكام سريعة وحاسمة عليها، في ظل 100 عام من تجديد وتحديث الشعر، الذي يحتاج لحركة نقدية وعمل جاد على صعيد استكشافه في المغرب العربي والمشرق العربي والمهاجر والمنافي، بوجود شعراء عرب وشعراء منافي ومهاجر ومهارب من الطغيان والفقر والحروب والآلام السياسية بفعل تحولات وأنظمة حكم.

وتساءل الجراح:”هل نحن أبناء شعرية عربية مترحلة باستمرار منذ امرؤ القيس وحتى اليوم،؟ هناك خيارات شخصية وأخرى دفع إليها الشعراء، في مشهد متكرر عبر قرن من الزمن، حيث كتب الشعراء وقدموا إسهاماتهم، لكن يكاد يكون الشعر العربي مجهولا لذاته مغربا ومشرقا وحتى العلاقات بين الشعراء تبقى مفككة وظرفية تجهل ذاتها بهذا التنوع والقدر، فجميعهم وأغلبهم في منافي وحتى من يعيشون في بلادهم يعيشون منافي اللغة وغيرها”.

وثمن الجراح مسار الشعر العربي العظيم والكبير والمنفتح والذي لا يمكن بأي حال اتهامه بالانغلاق وعدم التأثير، في غياب معطيات نقدية وتسجيلية في طبيعة علاقات الشعريات العربية بالأخرى.

وقال الجراح متسائلا:”خطير ألا تكون لغة القصيدة للشاعر هي لغته الصادرة عن تجربته الشخصية، هو سؤال النقد أيضا، فكيف نعيش كشعراء ،وكيف نكسر عن اللغة اعتياداتنا للنفاذ لذواتنا والعالم؟ لتكون لنا قصيدة يراها القارئ جديدة وتحمل سرا ما، مسجلا تقصير النقد العربي في مقاربة الشعريات العربية في غياب الشغف بالنقد وحب الشعراء لبعضهم.

تجربة”الزنوجة”

واستعرض الناقد المصري حسين حمودة، ورئيس تحرير مجلة فصول، تجربة “الزنوجة” الكبيرة والتي مثلت فرصة ضائعة كان يمكن أن تشيد بفضلها جسور إزاء التواصل المفقود وتحقيق قيم ثقافية نبيلة متفردة ومفقودة، علما أن العالم يشهد تقسيما للتجارب وتغذية أشكال من الصراع بين البشر، بانبعاث نزعات متعددة للسيطرة وموجات من ردود الأفعال والمقاومة هنا و هناك.

وأضاف حمودة متسائلا:”كيف تحولت الحركة الجماعية إلى محض مشتقات فرعية متأخرة قبل انحسارها؟ الزنوجة تظل حركة معروفة ومعروف اقترانها بملابسات تاريخية ببزوغها ما بين الحربين العالميتين وارتباطها ببعض الشعراء السود ممن يكتبون بالفرنسية، إلى جانب اتصالها بالسعي للتحرر من الاستعمار لدى بلدان عدة في إفريقيا، وانطلاقها من مفهوم مفتقد للهوية واتصالها بما يبدو صحوة متأخرة على ميراث العبودية الطويل والحط من شأن أصحاب البشرة السوداء.

واعتبر حمودة أن معالم تيار الزنوجة مرتبط بما هو جمالي وإيديولوجي وسياسي، ومناوءة المركزية الأوربية التي نظرت بتعال للعالم كمزارع ومناجم خلفية، ومقاومة التمييز العنصري، باعتبارها تمثل الظاهرة الأدبية المفهومة والتي يسري عليها ما يسري على ظواهر كثيرة مرت بما يشبه دورة الحياة المعروفة، ولكنها بالمنحنى المتسارع من الصعود والتراجع مثلت موضوعا للتفسير والبحث.

وأكد حمودة على أن الزنوجة تنطلق من أحد أشكال رد الفعل بتلك النظرة التي تنطلق من تقسيم العالم ليس إلى قطبين وإنما من خلال تصور مضاد بتصورات مجحفة لشعوب البلدان التي تحولت لمستعمرات، إذ قامت على أرضية تصلح للاستقطاب وترى العالم معسكرا ضد آخر، ووقفت ضد رياح أخرى تراهن على التفاعل والتقارب أو التفهم وليس الاستقطاب، برياح تطرح على الآداب والفنون تصورات أعمق حول تعقيدات الهويات وليس قسمتها الثنائية، وتراجع الأدب الذي يتناول ثنائية الشرق الغرب وصعود الأدب الذي يعبر عن تداخلات الهوية وقضايا الهجرة.

وزاد مبينا:”هي تساؤلات تتصل بالانحصار النسبي للشعر الذي لم يتراجع إلا على مستوى تلقيه وتمثله على مستوى فنون تتصل بكل الأنواع الفنية، حيث نجد روحه في السينما مثلا، كما أنها تشمل أيضا تساؤلات تتصل بالتقاطع العربي مع تجربة الزنوجة، في سياق منبع صوفي ومنبع مرتبط بالقومية العربية والوجودية واليسارية، فهي كانت تنهل من نبع مؤقت وهي مقولة لا يكفي يقينها لإغلاق باب المداولة الذي يمكن أن يقود لإصدار حكم مطمئن أخير”.

وتميزت الجلسة المسائية الثانية من الندوة بقراءات شعرية ل7 شعراء يمثلون جنسيات مختلفة، وهم الشاعر البحريني، قاسم حداد، والمصري أحمد الشهاوي، والسنغالي أمادو لمين صال، واللبناني شوقي بزيع، بالإضافة إلى جوسلين ميشيل ألمايدا من الأوروغواي والتونسية جميلة الماجري والمغربي عبد الرحيم الخصار.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى