شعراء ونقاد يقاربون تقاطع حداثات العالم الثالث مع نظيرتها الأوروبية

حديدي: منتقصة وتنعكس على مشاريع ثقافية تعاني من"نكسة"

سجل شعراء ونقاد تفاعل الحداثة العربية والإفريقية والجنوب أميركية مع المحيط الدولي المتسم بنزعات فردية، في محاولة منها لتعميق جدلها مع التاريخ والوقائع اليومية وأيضا أسئلة الفكر والهوية والوجود، ورصد ما تحقق عبر جهود الترجمة والدراسات النقدية المقارنة لتعميق هذا الانتماء الراسخ، وذلك الجلسة الشعرية الثانية، اليوم الاثنين، حول موضوع”الشعر العربي وشعريات عالم الجنوب: إفريقيا وأميركا اللاتينية”، في إطار فعاليات الدورة الخريفية لموسم أصيلة الثقافي الدولي ال43.

الفرضية القاسية

وقال صبحي حديدي، ناقد وباحث ومترجم سوري، إن الحداثة الشعرية في دول الجنوب انطلقت من أبناء المستعمرات السابقة سواء في التنظير للأدب والسرد والمجتمعات والتاريخ، كنوع من أنواع المكاسب الذاتية لثقافة المستعمرات السابقة، علما أن ثلاثة أرباع البشر في العالم الراهن عاشوا تحت الاستعمار، الذي لا يخص فقط مرحلة زمنية تصف أطوار الاستقلال، بل ما علق وتأصل من نظريات استعمارية في حاضر ومستقبل هذه المجتمعات.

واعتبر حديدي أن المشاريع الاستعمارية تزامنت مع حركة حداثة أدبية وفلسفية وفنية كانت في معظمها بريئة تتوجه لتطوير الفنون، مع وجود جزء آخر تورط مع المشاريع الاستعمارية حينما توحدت وأصبحت مركزا إمبرياليا، إذ باتت الحداثة الغربية شكلا من أشكال التكافل مع المشاريع الاستعمارية والمركز الإمبريالي.

وزاد مبينا:”أنا لست ضد الفرضية القاسية التي تفيد بكون الحداثة هي الغرب والغرب هو الحداثة، بنسب متفاوتة، لكن ما اتضح ضمن آثار ما بعد الاستعمار أن هناك حداثات أخرى تخص المجتمعات التي كانت خاضعة للمشروع الصناعي والاستثماري والاقتصادي فضلا عن المشروع الأدبي، وهنا نجنح لإطلاق عدة تسميات منها أدب الجنوب أو أدب العالم الثالث أو الآداب النامية جغرافيا حينما نتحدث عن آداب آسيا وأميركا الجنوبية وغيرها”.

وسجل حديدي أن حداثات العالم الثالث اقترنت كما هو الحال بالنسبة للأوروبية ببرامج البرجوازية الصغيرة والحركات التحررية في البلدان النامية وانتعشت قليلا مع تلك البرامج وانتكست بانتكاسها، بارتباط عضوي وزمني يخص العلاقة مع الأنظمة والسلطات وهو أيضا ارتباط فكري، مما قد ينعكس مباشرة في مشاريع ثقافية تعاني من نكسة ما، وبالتالي فهي حداثة منتقصة بشكل أو بآخر، في علاقة تفاعلية أو تبادلية، لافتا إلى أن الحداثة المركزية الأوروبية لم تستطع أن تهيمن تماما على الحداثات الأخرى التي توالدت في مناطق أخرى من العالم وعبر إبداعات إنسانية كان من الطبيعي أن تترعرع.

وقال حديدي:”الحداثة الغربية بدا كأنها استطابت أن تستورد هذا التنويع الجديد الإيقاعي، بحيث أنه تحول مع شعراء كثيرين ليصبح تيارا جارفا يحتوي على بشائر حداثية لم تكن أصلا واردة في إطار تنميط العلاقة مع الآخر”.

“كومنولث أدبي”

واستعرض الناقد والباحث السوري قصص في السياق لمقاربة الموضوع، منها ما وصفه ب”صراع حداثتين” بين الشاعر والكاتب والسياسي الفرنسي إيميل سيزار ومواطنه لويس أراغون، وهو الصراع الذي اتسم بالدفاع عن الحداثة الفرنسية تارة واعتبارها مهيمنة وتقلل من الآخر تارة أخرى.

على صعيد ذي صلة، تناول حديدي حكاية أخرى بطلها أستاذ نيجيري، وهو وولي سوينكا، والذي حصل على منحة دراسية لجامعة كامبريدج البريطانية، ظنا منه أنه سيدرس آداب القارة الإفريقية، لكنه فوجئ أن عمادة الكلية أعلنت عكس الأمر، خاصة أنه لا تعترف بمادة لها صلة بهذه المواضيع أي الأدب الإفريقي، ليتم إرساله لقسم الأنثروبولوجيا وليس قسم الأدب.

وأضاف حديدي:”هم يعتبرون أن إفريقيا لا تمتلك أدبا خاصا بها وأن ما تنتجه أقرب للتعبيرات الشفهية، ليتضح العكس لاحقا حينما سيحصل سوينكا على جائزة نوبل للآداب سنة 1986 ، الجامعة هنا ليست مؤسسة استعمارية، لكن ما هو متأصل بعمق في القوانين الداخلية غير المكتوبة كان يقول إن الأدب الإفريقي وحش أسطوري”، مسجلا أن مواقف سوينكا لم تشفع له النجاح في التخلص من التنميط بين حداثة أوروبية مهيمنة وحداثات أخرى في إفريقيا.

وشدد حديدي أن تبخيس هذه الآداب هو الأخطر، مضيفا:”أنت تقدم مادة لكننا لا نعتبرها أدبا بل نراها كمادة أسطورية فقط، هو موضوع شكل أزمة لدى كتاب العالم الثالث وأسفر عن درجة من التعصب ضد الآخر الأووربي وهو سلوك انفعالي خاطئ، في حالة من العصاب المرضي، وكان أحد أسباب حكاية تتصل بالنظر بطريقة دونية لآداب الشعوب الوليدة”.

وسجل المتحدث ذاته سطوة اللغة الإسبانية في أميركا اللاتينية، لكنها ليست ناجمة عن استعمار سابق أو مشاريع استعمارية، فهي نوع من هيمنة لسانية طوعية، ففي أميركا اللاتينية نجد أن غالبية كبيرة من الكتاب يشكلون تحول الظاهرة اللسانية لما يشبه “الكومنولث الأدبي”، في تلاقح خصب وإبداعي بين الكتاب باللغة الإسبانية وآداب أميركا اللاتينية والآداب باللغة الإسبانية الأم، معتبرا أن الآداب في أميركا اللاتينية بلغت مستوى من العالمية بسبب هذا التحرر المدهش من عقدة أن اللغة اسبانية هي استعمارية، وبالتالي يجب أن ننفر منها ونذهب للغات الأخرى أو اللهجات.

وأوضح حديدي أن الحداثة الأوروبية الراهنة تقلد وهو ليس عيبا، فهناك تأثير وتأثر في ميادين، مشيرا إلى تأثر التشكيلي الإسباني بابلو بيكاسو بالقناع الإفريقي، وهو القادم من تراث آخر ليتحول إلى نوع من البصمة الشخصية له، مما خلق حداثات تتقاطع أحيانا بطريقة إيجابية وأحيانا صدامية.

من جانبه، أفاد ترينو كروز، شاعر ومترجم من جبل طارق، بضرورة طرح تساؤلات كثيرة حول الحداثة في الجنوب، في إطار تعقيدات كثيرة وتفاعل بين المفارقات الثقافية، بدءا من الحديث عن شعراء الجنوب المنقسمين حول العالم ممن تشكل الجغرافيا بالنسبة لهم نقطة الانطلاق.

مفارقات ثقافية

ودعا كروز إلى تكثيف الجهود لفهم طبيعة هذا الإبداع المعقد لكن في الوقت نفسه محاولة تفادي بعض الفخاخ، مضيفا:”حينما نتحدث عن التقاليد الإبداعية لا بد أن نأخذ مسافة وألا نخلط الأمور، فهناك أصوات فردية كبيرة في الشعر مرتبطة بالمكان الحقيقي والواقعي، فالشعر فوق كل الجغرافيا ولا يجب أن نبقى مكتوفي الأيدي دون استعمال الشعر على الوجه المطلوب، خاصة أنه يحتاج للحرية التي تحتاج بدورها للتصرف والعمل بشكل متواصل ودائم، كشعر يدعو إلى التساؤل بطريقة تدعو للتفكير في تعقيدات العالم”.

وقال كروز:”لابد من الانطلاق من الأدب القديم وفهم حيثياته لمقاربة الرؤى الحديثة، وأيضا تحديد مكان وجود العراقيل التي تعيق التواصل الثقافي مما يمثل إشكالية لا تتيح لنا تسهيل التواصل حينما نتحدث عن الكتاب العرب والجنوب، في إطار تقسيم وتجزيء من الصعب تجاوزه، ارتباطا ببؤر طبيعية وسياسية واجتماعية واقتصادية، مما يفرض خلق تقارب جماعي مكثف لتجاوز هذا  النوع من المشاكل، فما ينقصنا كشعراء هو إطلاق دراسات تدعو للمزيد من التفكير مع تحليلات بسيطة وسهلة لشعر غني ومقاربة التعقيدات التي تشوبه”.

الجغرافيا المغربية

بدوره، أكد نوري الجراح، شاعر سوري، على إمكانات الجغرافيا المغربية في علاقتها بالجوار الأوروبي للمساهمة في تقريب وجهات النظر حول الحداثة الشعرية لدول الجنوب بشكل عام، مشددا على دور أدب الرحلة الذي له في هذه الجغرافيا مكانة كبرى على جيل المؤسسين في الأدب الجغرافي في دول كالعراق وسوريا، في سياق قرون لاحقة فيما يسمى بأدب البلدانيات، حيث أصبحت صورة الرحلة بظهور ابن بطوطة كعلامة مميزة، ولتصبح الثقافة العربية هي ثقافة الرحلة.

واعتبر الجراح أن الجغرافية المغربية عرفت أسماء أساسية استكشفت الجوار الجغرافي بالمعني الثقافي والديني والاجتماعي، بنظرة العربي نحو الآخر ظلت مجهولة لحد كبير، مسجلا أن هذه الجغرافية المغربية تختزن خزائن المغرب المليئة بالمخطوطات، والتي لم يسبق لها أن طبعت لا حجريا ولا بأي طريقة.

وتناول الجراح علاقة النخب العربية المثقفة بفكرة الحداثة والمدنية الجديدة والتجليات الجديدة اقتصادية وسياسيا، من خلال نصوص تركت أثرا حينما نقلت للغات الفرنسية والإسبانية، منوها بأدوار الرحالة المشارقة والمغاربة الدين اشتغلوا على نصوص مماثلة، تعكس وجود جذور نظرة العربي في ذاته.

وتميزت الجلسة المسائية من الندوة بإلقاء قراءات شعرية لشعراء يمثلون ثقافات ومشارب مختلفة، وهم أحمد الشهاوي من مصر، وأنا لوتشيا دي باستوس من فنزويلا ومحمد ولد إدومو من موريتانيا، وخوان بابلوروا من كولومبيا وفاضل السلطاني من العراق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى