الملك محمد السادس: الديانات توظف غالبا لأغراض غير بريئة…وعلينا العودة للعيش المشترك

قال الملك محمد السادس إن أشكال التطرف باتت تهيمن على النقاشات وتقصي الخطابات المعتدلة؛ وغالباً ما يتم توظيف الديانات لأغراض غير بريئة، فضلا عما تتعرض له من وصم وتوصيفات مسيئة.

واعتبر الملك محمد السادس، اليوم الثلاثاء، في رسالة إلى المشاركين في الدورة ال9 للمنتدى العالمي لتحالف الحضارات في فاس، يومي 22 و23 نونبر الحالي، أن السياق الحالي يتسم بتزايد الأسباب والدوافع التي كانت وراء إنشاء تحالف الحضارات، حيث لم يسبق للحضارة الإنسانية أن كانت معرضة لمثل هذا الكم الهائل من المخاطر، ولم يسبق للعيش المشترك أن واجه مثل ما يواجهه اليوم من تهديدات بشكل يومي؛ فنادراً ما كان الآخر مثار ارتياب وشك مثلما هو اليوم، ونادراً ما كان يستخدم كل سبب مفتعل لإثارة مشاعر الخوف والكراهية وتأجيجها كما هو الشأن اليوم.

وأضاف الملك محمد السادس، في الرسالة التي تلاها المستشار الملكي، أندري أزولاي،:”وتثير الشعبوية القلاقل والاضطرابات داخل المجتمعات وتختلق الأسئلة دون الإجابة عنها ، لا لشيء إلا لتوظيف الهجرة كفزاعة وأداة انتخابية وجعل المهاجر كبش فداء، وعادت قارات كانت قد قطعت مع زمن الحروب، إلى استعمال الأسلحة والعنف بجميع أشكاله وتجلياته ؛ وجاءت جائحة كوفيد-19 معلنة عن عودة الانعزالية والانغلاق على الذات، في الوقت الذي كان يجب أن تشكل فرصة لترسيخ الوعي بالمصير المشترك؛ بينما ينتج كوكبنا ما يكفي من الموارد لإطعام البشرية كلها، صار انعدام الأمن الغذائي يشكل تهديداً للعالم؛ كما أن الإرهاب ينتعش من نزوعات الانفصال ويتحين الفرصة، حيثما يساهم انعدام الاستقرار السياسي، في تعطيل وتيرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية”.

وأكد الملك محمد السادس أن الوقت مناسب دوماً للحديث عن السلام، لا بوصفه نقيضاً للنزاع والصراع فحسب، بل بما هو رؤية للعالم، وعلاقة تفاعل مع الآخر. ولا شك أن تحالف الحضارات يعد ركيزة قوية للسلام وفق هذا المنظور، مسجلا أن الحوار، بخلاف الحروب التي تعرف بدايتها دون أي إمكانية للتكهن بنهايتها، يعد نجاحاً في حد ذاته وفي جوهره. وفي ظل تجدد النزاعات والصراعات، يبقى الحوار مفتوحاً على مآلات إيجابية. فحتى إن لم يفلح في تسوية الخلافات، فحسبه أنه يعزز التعارف والتفهم المتبادل.

وشدد الملك محمد السادس على ضرورة إعلاء كلمة الحوار الذي يضطلع به تحالف الحضارات، ولا بد من ضمان سبل نجاحه. فلا سبيل إلى الخلاص إلا بالحوار، شرط أن يكون حواراً بين الحضارات، يشمل الجميع ويراعي مصلحة البشرية بكل مكوناتها، بما يسمح باستيعاب العالم في تعدديته، والعمل وفق نهج متنوع الأطراف، وتجسيد مفهوم العالمية بمعناه الحقيقي، إلى جانب تبني حوار بين الأجيال، يشرك الشباب ويستشرف المستقبل.

وزاد مبينا:”فالشباب لا يمثل فقط الأجيال التي علينا تحصينها ضد ويلات الحرب وضد خطاب الكراهية بمختلف أشكاله، بل هم الأجيال نفسها المنخرطة فعلياً في صنع السلام، كما أن الحوار ينبغي أن يكون بين القارات ينأى عن كل تفكير أو تعصب عرقي. وأنا هنا أتحدث عن إفريقيا ومن أجل إفريقيا، وعن موقعها المستحق والمشروع لا عن وضعها في الهامش؛ وعن المعاملة التي تستحقها، فلا ينبغي أن تظل تتلقى المساعدات ولا أن تترك لحالها في مواجهة مصيرها؛ وأتحدث عن حقها في التعامل مع شركاء هي جديرة بهم وهم جديرون بها؛ وعن حقها في أن تقدر حقَّ قدرها باعتبارها المتنفس الديموغرافي للعالم وخزانَه الاقتصادي، بما لها من تطلعات ومؤهلات واعدة”.

وأشار الملك محمد السادس إلى انخراط المملكة المغربية، باعتبارها من الأعضاء المؤسسين لتحالف الحضارات، في جميع المعارك، لأسباب جوهرية نابعة من صميم هوية المغرب القائمة على الانفتاح والانسجام والتلاحم، والموحدة بانصهار مكوناتها العربية الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، وأخرى ترتبط أساساً بالتزامات المغرب، بالنظر إلى أن قيم التحالف والمثل العليا التي يدافع عنها والنموذج الذي يدعو إليه، هي نفسها منظومة القيم والمثل العليا التي يتبناها المغرب والنموذج نفسه الذي يعتمده .

وأوضح الملك محمد السادس انخراط المغرب، منذ البداية، في هذه المبادرة الرائدة وظل متشبثاً بها بكل حرص وثبات، بالدفاع عن الانفتاح وإشاعته، باعتباره ثقافة للسلام، لافتا إلى حماية الملك الراحل  محمد الخامس، لرعاياه اليهود ضد الهمجية النازية والممارسات الوحشية والتمييزية لنظام فيشي، وأيضا عمل الملك الراحل الحسن الثاني، طيلة المدة التي تولى فيها العرش، على ترسيخ روح الإخاء بين يهود المغرب ومسلميه، في جميع أنحاء العالم.

وقال الملك محمد السادس:”كما حرصنا من جانبنا، منذ أزيد من عقدين، على تثمين التراث اليهودي المغربي وصونه، وعلى تنمية روح الوحدة والتلاحم الصادقة بين اليهود والمسلمين في دار الإسلام، والتي هي سر الخصوصية المغربية. وبعزم راسخ، آلينا على نفسنا، في المملكة المغربية، الثبات على هذا الاختيار المتجدد باستمرار، بالحفاظ على صورة المغرب كأرض للتسامح والتعايش والانفتاح”.

وأضاف الملك محمد السادس:”فبصفتنا أميراً للمؤمنين كافة، من كل الديانات، فنحن الضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية في كل تراب المملكة المغربية، ونرى أن الدين يجب أن يكون حصناً ضد التطرف لا مطية له، حيث دأبنا على الدفاع عن هذه القناعة في كل المحافل، من خلال الديبلوماسية الدينية للمملكة. فدور مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، ومعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، يتمثل في التصدي للتطرف المنتشر على مشارف إفريقيا، والتعريف بالإسلام باعتباره دين وسطية واعتدال”.

وأشارت الرسالة الملكية إلى تقدم المغرب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار الذي اعتمدته تحت رقم 73/328 بشأن “النهوض بالحوار بين الديانات والثقافات وتعزيز التسامح من أجل مناهضة خطاب الكراهية”. وقد نوه هذا القرار، الذي دعمته 90 دولة، بأهمية “خطة عمل فاس لمنع التحريض على العنف المحتمل أن يؤدي إلى جرائم وحشية، بالإضافة إلى استقبال البابا فرانسيس خلال زيارته التاريخية للمغرب، حيث أكد الملك محمد السادس بهذه المناسبة على أهمية انفتاح الديانات السماوية الثلاث على بعضها، في ظل قبول الاختلاف، وفهم الآخر.

وأفاد الملك محمد السادس بالتوقيع على نداء القدس، رفقة البابا فرانسيس، والذي يدعو إلى المحافظة على المدينة المقدسة باعتبارها أرضاً للقاء بين أتباع الديانات التوحيدية الثلاث، ورمزاً للتعايش السلمي والحوار والاحترام المتبادل، وأيضا من خلال العمل على تحقيق التنمية بمفهومها الواسع، باعتبارها ركيزة من ركائز السلام.

وأكد الملك محمد السادس أن المغرب يعد حليفاً محورياً في محاربة الإرهاب، وشريكاً موثوقا به في جهود التصدي للتغيرات المناخية، وفاعلا مسؤولا في مجال تدبير الهجرة، إلى جانب انخراطه في جميع مجالات عمل التحالف، سواء تعلق الأمر بتعزيز العمل متعدد الأطراف، أو بتأهيل الشباب وبث روح المسؤولية فيهم، أو بتمكين المرأة وإبراز دورها باعتبارها فاعلا في مجال السلام والأمن.

وأوضح الملك محمد السادس أنه إذا كانت السياسة تخاطب المواطنين، فإن الدين ينادي أرواحهم والحوار يخاطب حضاراتِهم. وبالتالي، علينا أن نخاطب السلام بكل اللغات والتعبيرات.

وقال الملك محمد السادس:”في هذه اللحظة الفاصلة من تاريخ البشرية، والتي ننكب فيها على التصدي للتغيرات المناخية، ومحاربة الإرهاب، ونبذل قصارى الجهود من أجل تحقيق التنمية المستدامة والأمن المائي والطاقي والغذائي، ومن أجل التنمية بصفة عامة، ينبغي لنا أن نعود إلى ما هو جوهري وأساسي في هذا الشأن، ألا وهو العيش المشترك. فلا خير يرجى من إطلاق مشاريع كبرى إذا كنا لا نستطيع تجاوز هذه الحلقة الأولى على درب تحقيق العيش المشترك، من أجل إنسانية واحدة تعيد وضع الكائن الإنساني في صلبها”.